بهاء طاهر.. الكاتب الملتزم
في عام 2008 كنت مدعواً لمؤتمر أدباء مصر في الأقاليم، وكان رئيس الدورة لذلك العام هو الكاتب الكبير بهاء طاهر. أقيم المؤتمر في مدينة «مرسى مطروح» على البحر المتوسط، فأصبح مصيفاً للجميع، بدلاً من أن يكون مؤتمراً.
كنت أشاهد الكاتبين محمد البساطي وإبراهيم أصلان وغيرهما يرتدون ملابس البحر ويتجولون في الشوارع بالقرب من الشاطئ الرملي، لكن وحده بهاء طاهر كان يستيقظ في السابعة صباحاً. يظهر بملابسه الكاملة، قميص وكرافتة و«جيليه» وأعلاها جميعاً جاكت. أناقة ستينية معتبرة. يسير بخطوات باشا كأنه خرج من كتاب قديم. يدخل القاعة ولا يغادرها إلا بعد أن يغادرها آخر شخص. كان نموذجاً للالتزام.
وهذا الموقف البسيط ينطبق على جميع مواقفه الكبيرة الأخرى، فقد كان في مقدمة صفوف المثقفين المصريين الداعمين لثورة 30 يونيو، ورأى أنها فرصة لتعديل مسار «25 يناير»، وبالتالي أصبح بهاء طاهر في طليعة المستهدفين.
بعد أن تقلب بهاء طاهر في أكثر من مهنة، وأولها عمله مترجماً في الهيئة العامة للاستعلامات، وهي مؤسسة تابعة للدولة، وكذلك عمله كمذيع ثقافي في الإذاعة المصرية وتقديمه لعدد كبير من الأعمال المهمة لأسطورات الأدب، وأيضاً أعمال الكتَّاب الشباب الذين صاروا نجوماً بفضله، جاءته الفرصة على طبق من ذهب، إذ سافر إلى جنيف، والتحق بهيئة الأمم المتحدة، ليعمل مترجماً بها.
أثبت بهاء كفاءة كبيرة في عمله جعلته يستمر لسنوات طويلة، وحينما عاد إلى مصر كان لديه بعض المال ليشتري شقة في الزمالك، الحي الراقي العريق، الشقة التي أصبحت وجهة للأصدقاء والكتَّاب الشباب، وبالتالي صار لديه الوقت ليجلس ويكتب ويبدع أهم أعماله مثل روايتيه «نقطة النور»، «واحة الغروب»، ومجموعته القصصية «لم أعرف أن الطواويس تطير»، وهي بالمناسبة تعكس أجواء فترة عمله في جنيف حيث كان يراقب شجرة كبيرة في فناء الأمم المتحدة ولاحظ أن بعض الطواويس جاءت واحتلتها، كما تعكس أجواء الحي العريق «الزمالك» في بعض قصصها، وهكذا أُضيفت تلك الأعمال إلى أعمال أخرى صارت جزءاً مهماً من الأدب المصري والعربي، أبرزها «الخطوبة» التي صدرت عام 72 وهي مجموعة يجب أن يقرأها أي كاتب شاب يريد أن يتخصص في كتابة القصة، ففيها كل خصائص هذا النوع وفي قصصها مثل «كومبارس من زماننا»، و«الأب»، و«الخطوبة» فهم عميق للذات الإنسانية في نزوعها نحو الشر..
وكذلك هناك مجموعاته الأخرى «بالأمس حلمت بك»، و«أنا الملك جئت» و«ذهبت إلى شلال»، ورواياته «شرق النخيل» و«قالت ضحى» و«خالتي صفية والدير» و«الحب في المنفى» و«واحة الغروب»، وهي الرواية الحائزة على جائزة بوكر العربية في دورتها الأولى عام 2008، وفيها استحضار قوي للتاريخ ولشخصية الإسكندر الأكبر، حيث تبحث البطلة كاترين عن مقبرته في سيوة.
كان بهاء طاهر ميالاً إلى العزلة، ولكن بقدر، إذ كان بيته مفتوحاً للأصدقاء وللشباب، يكفي اتصال واحد به على تليفون المنزل ليقول لك إنه ينتظرك، كما كان في أواخر حياته يجلس بالقرب من البيت، في مقاهي الزمالك، مع شلته وخاصة صديقه الكاتب الصحفي عبد الله السناوي. كما كان يتابع أخبار الدنيا من خلال قنوات الفضائيات العربية، وإذا زرته يوماً ما سيخبرك بأن مشاهدة التلفزيون جالبة للكآبة، بسبب المشكلات العربية العصية على الحل. كانت مقابلة بهاء طاهر في آخر عامين وتحديداً بعد أزمة كورونا مستحيلة فزوجته ستيفكا وابنته الكبرى يُسر، حرصتا على عدم احتكاكه بأحد، خوفاً من انتقال العدوى إليه، وإن صرحت يُسر للصحافة بأن والدها ليس في عزلة وأنه بصحة جيدة وأنه يتابع الأخبار أولاً بأول. رحل بهاء طاهر بجسده، لكنه ترك للمكتبة العربية ما يبقيه حاضراً مئات الأعوام.
