No Image
ثقافة

المطر ودلالاته في ديوان « كما لو أنني أكبُر الآن»

14 نوفمبر 2022
14 نوفمبر 2022

تستعيد الشاعرة سميرة الخروصية في ديوانها (كما لو أنني أكبر الآن) 2008م، ذاكرة المكان والإنسان والطفولة التي مرّت بها في تشكيل شعري يطوف بالأمكنة وتخيلاتها؛ إذ تقوم المجموعة على ستة وأربعين نصا شعريا متشكّلا من الاسترجاع والاستدعاء والعودة بالذاكرة إلى اللحظات الحميمية المتمثّلة في الطفولة وخصوبة المكان.

تتشكّل النصوص من ملمح مهمّ في بنائها متمثّل في حضور دلالات المطر، ويبدو أنه ملمح تتوصّل الشاعرة من خلاله إلى استعادة ملامح الفرح والذاكرة والماضي والتخيّل ومن ثمّ الاستطراد في عملية الاستحضار المكاني والدلالي. كما أنه عنصر مهم يرتبط بديهيا بدلالات التواصل والاتصال، والحضور الذهني في تشكيل الأشياء؛ فارتباط المطر بالطفولة على سبيل المثال قيمة حية في اشتغالات الذاكرة والزمان والمكان، ولا أدلّ على ذلك من حضور عتبات النصوص الشعرية دالة على هذا الاتصال، مقدّمة حضورا بصريا في النص، ومتقاطعة مع الذاكرة والطفولة والمكان في لوحة شعرية مسترجعة في معظمها.

ترد عتبات النصوص مثل: (مطر الأمكنة)، و(أمي أول الغيم)، و(بقايا مطر)، و(مطر قرب الباب)، و(سيدة كدهشة المطر) دالة على مضمون قيمي في الارتباط بالعتبة الرئيسة للمجموعة الشعرية (كما لو أنني أكبر الآن) في استعادتها للطفولة، أو الارتباط بعتبات أخرى ترد فيها دلالات المطر من مثل: (بريد برائحة الكافور)، و(ثالث الوهم)، و(ركن)، و(دع قلبي لك وسادة)، و(كما هي الفاتحة)، و(عودة)، في استرجاع الذاكرة.

فما ملامح هذا الارتباط المطري في نصوص المجموعة، وما أثره في التشكيل الشعري؟

المطر والذاكرة:

تستمطر الشاعرة الذاكرة مستعيدة لحظاتها الجميلة، فيأتي نص (بقايا مطر) راسما لوحة لما علق في الذاكرة، نجدها تستفتح النص بقولها:

كلما امتلأ الليل بالذكريات

تتعبني رغبة طائشة

رغبة بالبكاء

وأبقى أفتّش

في نِسيان كانون

عن زاهد في الطريق

وعن راعيات القطيع

وناقة جـدّي

أرى شجرا

يستقيم في عمق روحي!

وما كنت أراني

سـوى طفلة

«تتبع الظل والغـرباء

ودود الطريق»

وتبحث في دكة الرمل

عن أخ ولدته امرأة

في الصباح يتيما

تحت حجر وقبّار عشب

أرى النسوة الطيبات هنا

يَعْجِنَّ في العصر

تمر الكـلام!

أرى هاجس الأمس

يدنو قصيّا أمـامي

كما لو أنني أكبر الآنَ

فينجلي الوقت مني رويدا

رويدا.. (ص:28)

هنا يمتلئ النص باستعادة اللحظات من بوابة الذاكرة، لكن النص باستثناء عتبته لا يشير إلى أيّ ملمح للمطر، إنه مطر قابع في ذاكرة الاستهلال الدلالي، مطر يتهاطل على الذاكرة مولّدا استنطاقا جماليا لصور الطفولة وذكريات الأشخاص وذاكرة الأمكنة وصولا إلى تغيير في هوية الذات المنفتحة على الاحتراق في آخر النص. إنّ هذا التصادم بين دلالات المطر أول النص، والاحتراق آخره أوصل النص إلى التشظّي بين ذاكرتين متحركتين يعمل النص على تكثيف صورها الحية القابعة في الذهن:

أنا هكذا

لست أعرفني

الآن في هيئتي

أعفر على ذكرياتي

غبار السنين!!

فأبصر كل الذين

طرقوا باب عمري

يمرون سرب يمام

بأعلى سمائي

وحين أواعدهم في الصباح

أمدّ يدي

يميلون

لكننا نحترق!!. (ص:30)

وكذلك الحال في نص (بريد برائحة الكافور)، فإنّ المطر يحمل دلالات الذاكرة ويستعيدها لحظة الكتابة الشعرية، ولحظة التخيّل الشعري قائلا:

عن مطر يبلّل الصنوبر

وسكة المدرسة البعيدة

عن قهوة الجدّات

عن عـامه العشرين!

ودوّن في الورق الكثير

قال بأنه سيرجع

بخاتم جميل أو سوار

لحبيبة جميلة

كقمحة الصباح!

لكنه لم يذكر

في آخر الرسائل الكثيرة

بأنه سيرجعها معطرة

بالماء والكافور

في داخل الكـفـن!. (ص:27)

المطر والمكان:

يمثّل نص (مطر قرب الباب) تمازجا بين دلالات المطر في حضوره الشعري، وبين تقاطعات المكان. وتأتي دلالات المطر مشبعة بتيارات الحلم والبعد والشوق باقترانها بالباب في العتبة، أو الشبّاك، أو الدار. لقد أوجدت الدلالات صورا عدة اتّكأت على المطر عبر اقتران مكانيّ، فنجد صور ذلك مثل: (تشرين يؤرجح غيمتين)، و(مثقلا بالصبر شيب بحّار، ولهفة غلام، مبلّل بماء صباه)، و(إله الخوف قبلته)، و(يتسلّق قشّة في الريح)، و(يخلع نعله، ويواري عريَ شجره)، و(ينتهي به أرذل العمر مقبرة ونايا).

إنها دلالات متحركة أو منتقلة من حال إلى أخرى، تجمع بين ثورة المطر وبين وجع الأمكنة التي تمنح شخصياتها القلق والغربة الداخلية الممتدة إلى نهاية العمر والانطفاء المكاني والذاتي. كما نجد نصوصا أخرى في المجموعة تتشكّل فيها الصور المتحركة المرتبطة للمطر والمكان، ففي نص (مطر الأمكنة) نجد هذا التوزّع بين الدلالتين، نجدها في المقطع الذي يتشكّل امتدادا للمقطع الأول الذي يحدّه المكان مقدّما انكسارا في الصور:

يا أيهـا الغـائب

الغريب

البعيد

قلبي أنـا قـلـب طـفـل صغير

وبيني وبين تلك السمـاء

حنان سـنـونـوة

فبماذا يذكّركِ المطر الآن

وما بيننا هـذا الأفـق

وهـذا الامتداد

وبين رحيـل ربيع وآخـر

يمرّ غريب هـنا

وتطول نخلة وتشيب

ويظل منجل العمر أمامها

فلا يعود غـريبا ــ ما كان.. (ص:8)

إنّ الغريب/ الغائب في المقطع الثاني صورة متشكّلة عن المفقود/ الغائب في ذاكرة المكان في المقطع الأول التي يستمطرها النص في قول الشاعرة:

عـندما أرى العابـرين

يمرّون كل صبح أمـامي

أرى سلة مهجورة

قـرب بـاب قـديـم

وأشـم كـيـذا

وكهل يمرّ بعكّازه

الأقـدم مـن حـزن جـدّي

والسماء فـوقي

نجوم بعيدة

أراهـا امتدادا فقطْ...

ترى ألك منزل

بين سكانها. (ص:7)

إنّ دلالات النص الشعري قائمة في مجملها على ثلاث زوايا للمثلث (المطر والذاكرة والمكان)، وهو ما يمكن أن نقيم معه علاقة تجمع المتضادات والصور والدلالات.

المطر والطفولة:

أما إن أردنا التوسع في الربط بين الدلالات فيمكننا الربط بين المطر والطفولة، أو المطر وشخصيات قادمة من عالم الطفولة بالتحديد، إذ تستعيد الشاعرة صور الطفولة من مراحلها الأولى في غير نص، ففي نص (دع قلبي لك وسادة) نجد مثل هذا الربط حين تقول:

فدعنا الآن نلعب تحت المطر

ونجمع حفنة اللوز

قبل أن تطول قامتكَ

وتكبرْ

وقل ما شئت لي

اترك حصانك العربيّ

وديناصورك الذي

لا يبرح دارك

دعهم يسرحوا

فأنت لهم ســماء

وأنت لهم مدينة

دعك صغيرا

ودع كتابي يا بنيَّ

وسادة لك حتى الغد. (ص:83)

وفي نص (كما هي الفاتحة) الذي تفتتحه بإشارة بسيطة لذلك البعد الزمني:

أنا

من أنا؟؟

غير ذاك الغلام البليد

الذي جاورَ الراهبين

وصاحبَ طفلا

نِعاجَ القرى

ثم طال قليلا

كميرميةِ جدّته في الجوارْ

أركب صهوة تتشظّى

في طيش صوفيتي

ثمَّ أرجع

ذاك المغني.. (ص:87)

ثم يعرّج إلى الربط بين الدلالات جميعا:

يخيّل لي منذ بدء الخليقة

أنّ السماء هنالك أندلس

وجِنان وحور عين

والسحاب ضفائر أنثى

وآلهة تمطر الخصب

فوق اليباسْ

لتخضرّ فيها نخيل الحياة!!

لكنني مثل عادة بـَدئي

أعود ككل مساء

أرافق عكّاز كهل عجوز

وأرجع في أول الفجر

مثقل الجبهة

كأنيَ من عاد في الصبح

طفلا أضاع الديارَ.. (ص:89)

تحاول سميرة الخروصية في نصوص مجموعتها الانطلاق من عتبات نصوصها المتشكّلة من المطر، إذ تمثّل العتبات انطلاقا مهما في التشكيل الشعري. إنّ دلالات المطر واضحة بدقة في العتبة، أما في النص فإنها تحاول التلاعب باللفظ وصنع صورة قائمة على الإيحاء والرمز للوصول إلى صورة المطر اقترانا بالعتبات.

إنّ هذا الارتباط مهم في نصوصها، إنه اشتغال نابع من وعي باستخدام الكلمة ومفرداتها وتوظيفها التوظيف الأمثل؛ لذا فإنّ الذاكرة هنا والمكان والمطر دلالات تواجه الطفولة المبكرة، وترفض أن تكبر أو تبتعد عن ذاكرتها الأولى، فهل جملة (كما لو أنني أكبر الآن) في العتبة الرئيسة ناشئة عن تمنّ أو هي تحسّر على فوات الزمن والانتقال إلى زمن آخر؟!