تصوير: هيثم بن ناصر العزري
تصوير: هيثم بن ناصر العزري
ثقافة

العمـارة بين الماضـي والمستقبل.. كيـف تسـهم العــــودة إلـى التراث في استدامة وأنسنة المدن؟ «2-2»

11 فبراير 2024
إحياء الذاكرة المكانية نحو مــــــفهـوم جـديد للــوعي البـصري
11 فبراير 2024

تناول الجزء الأول من هذا التحقيق إشكالية إعادة تشكيل مفهوم «المكان» في الوعي المعماري المعاصر، وطرح أسئلة حول مدى قدرة الاستلهام من التراث على تحقيق الاستدامة وأنسنة المدن. وقد دعا المتحدثون إلى ضرورة بلورة مفهوم تنموي جديد للمدينة العربية يركز على الجوانب الإنسانية ويحافظ على الهوية الحية المتجددة. كما أكدوا على أهمية فهم التراث بعمق وعدم اختزاله في المظاهر التاريخية الغائبة عن الحياة المعاصرة، فالهوية ما زالت تنبض فينا، وتتجلى في عاداتنا وتقاليدنا وقيمنا. ودعوا المعماريين لاستيعاب المعطيات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية عند تصميم المدن لضمان استدامتها عبر الأجيال. واستعرض المتحدثون تجارب عملية في إحياء التراث العمراني بطريقة عصرية تواكب متطلبات الحاضر مع المحافظة على الشخصية الفريدة لتلك المدن العريقة، وقد أشار المشاركون إلى أن استدامة التراث تتحقق من خلال طريقة البناء ذاتها، مع اعتبار أن القوانين المحلية والعربية المعنية بحماية التراث قد خطت خطوات إيجابية وإن كانت متفاوتة، إضافة إلى أن تحقيق استدامة حقيقية لا يأتي إلا من خلال بلورة منظومة تنموية شاملة ترتكز على المكان والإنسان، بحيث يصان التراث باعتباره موردا ثمينا، وتُحافظ في الوقت ذاته على البيئة العمرانية المحيطة كجزء لا يتجزأ من هذا المورد.

في الجزء الثاني والأخير، نستكمل هذا الموضوع المهم من خلال تسليط الضوء على التحديات والصعوبات التي تواجه تطبيق مفهوم المدن المستدامة ذات الهوية، واستعراض أمثلة ونماذج ملموسة لتجارب ناجحة حول العالم في هذا المجال، بالإضافة إلى استطلاع آراء السكان حول مدى نجاح تلك التجارب في تلبية احتياجاتهم المعاصرة مع المحافظة على الروح الأصيلة لتلك المدن.

يقول المهندس السوري الدكتور علي إسماعيل (المسؤول السابق عن ترميم أسواق المدينة القديمة في حلب) عن تجربة دمشق المدينة: إن فكرة الاستدامة في العمارة لا تُشكّل فقط استجابة للاحتياجات المادية، بل يكمن الدافع الأساسي وراءها في استدامة العلاقات الاجتماعية. تعتبر حواضر المدن القديمة مصدرًا حيويًا لتراكم الخبرات والحضارات التي تعاقبت على نفس المكان، ما يجعلها حيّة بالحياة ومستدامة في الصعيدين الفردي والمجتمعي.

فالمدن القديمة مثل حلب ودمشق راكمت فنونًا معمارية مستدامة جعلتها تزخر بالحياة والنشاط حتى يومنا هذا. فعمارة مدينة دمشق القديمة، مع تاريخها الطويل والمتنوع، تشكل مثالًا رائعًا على التمازج الواضح بين الحضارات المختلفة. يتجلى هذا التمازج في المعابد الأثرية التي كانت في بدايتها معابد للآلهة اليونانية والرومانية، لتتحول فيما بعد إلى كنائس ثم إلى مساجد، كما هو الحال في المسجد الأموي الشهير. هذا المسجد يُظهر بوضوح الهوية المعمارية المميزة لهذه المنطقة التي استمرت لقرون طويلة، والتي تُعد هوية فريدة ولا يمكن تكرارها في أي جزء آخر من العالم.

يشير المسؤول عن ترميم أسواق المدينة القديمة في حلب إلى أهمية الأثر المعماري المستدام في مدينة دمشق القديمة، حيث يبرز التراكم المعماري كنتاج للفهم العميق للاستفادة القصوى من العلوم والمعارف للحضارات المختلفة، والبيوت الدمشقية تعكس العناصر الطبيعية في تصميمها، مع التركيز على النمط المعماري السائد الذي يراعي الحالة الاجتماعية. يتميز تناغم المجتمع والتعايش الاجتماعي بين البيوت المتجاورة، حيث يُظهر ذلك رسالة حول أولوية التناغم الاجتماعي في بناء المجتمع، بغض النظر عن التفاوت الطبقي.

ويضيف: «الدمشقيون استعانوا بالعمارة لخدمة مكانتهم الاجتماعية ومعتقداتهم، والبيوت الدمشقية تُعتبر ترجمة فعلية للأفكار والمعتقدات الفلسفية والدينية. تعتبر «المياه» مكونًا مركزيًا في البيوت الدمشقية، تسهم في جمالية المنظر وتلعب دورًا مهمًا في ترطيب الأجواء والتخفيف من حرارة الصيف. النباتات، بما في ذلك أشجار الحمضيات والنباتات العطرية، تكمل هذا التصميم وتُضفي فوائد إضافية.»

وفي الختام يقول المهندس السوري الدكتور علي إسماعيل المسؤول السابق عن ترميم أسواق المدينة القديمة في حلب: على الرغم من التقدم التكنولوجي الحديث، نظل نشعر بالحيرة تجاه الحكمة الهندسية والمفاهيم الفلسفية التي اعتمد عليها الذين بنوا هذه البيوت قبل قرون. يظل البيت الدمشقي والعمارة الدمشقية هما هوية معمارية فريدة تُعتبر بصمة لا تزال تعرف بها هذه المدينة عبر الأجيال، وتحاول العديد من الثقافات تقليدها دون أن تتمكن من تكرار فلسفتها وتراثها المتداول عبر الزمن.

سياحة مستدامة

من جانبه، يقول الدكتور زكريا طعمة القضاة خبير هندسة معمارية ومحاضر غير متفرغ في قسم الهندسة بالكلية التقنية العليا بمسقط - جامعة التقنية والعلوم التطبيقية: تنوع الموروث الثقافي والعمراني في سلطنة عمان ما بين مبان عسكرية دفاعية (القلاع والحصون والأبراج والأسوار) والمدنية (الحارات والبيوت) والدينية (المساجد والأضرحة) والتجارية كالأسواق والمائية المتمثلة في الأفلاج والآبار والبرك والناتج عن وجود ثقافات معمارية مختلفة عبر تاريخها الطويل والنابعة من البيئة الطبيعية الموجودة بها، وكانت سلطنة عمان سباقة في هذا المجال، حيث تم ترميم وتأهيل أكثر من 85 موقعًا في مختلف أنحاء السلطنة منها تأهيل حارة البلاد بولاية منح وطرحها للاستثمار، ووثقت كثير من الحارات العمانية (اليمن، والسيباني، وفنجاء، والعقر، والسليف وغيرهما) مما يؤشر إلى رغبة حكومية واضحة نحو المضي قدمًا في تأهيل واستدامة هذه الكنوز التراثية رغم أن المحيط الحضري لمعظمها يعتبر حجر عثرة أمام هذه الخطط.

وقد سعت وزارة التراث والسياحة إلى توظيف هذا التنوع سياحيًا بصورة تحقق الاستدامة، حيث إن العلاقة التكاملية والوثيقة بين قطاعي التراث والسياحة يغذي ويدعم كلاهما عناصر جـذب مميزة بالإضافة لموارد المنتجات السياحية، في الوقت الذي تعتمد السياحة على زيارة ذلك التراث من قبـل السـياح فهي تقوم بحمايته لضمان الاستدامة والاستمرارية ومن هنا تزايد الاهتمام بصيانة المواقع التراثية والحفاظ عليها ليتحول الفكر العالمي من قضية الصيانة والحفاظ المعماري إلى قضية أكثر واقعية وهي إدارة تلك المواقع بهدف التنمية المجتمعية المتواصلة (الاستدامة) التي تحافظ على التراث كمورد وعلى البيئة العمرانية المحيطة كجزء لا يتجزأ من هذا المورد باعتبارها من أهم مكونات المحيط الحيوي الذي يسعى الجميع للحفاظ عليه وتنميته، وهي التي تحقق احتياجات المجتمع الحاضر، وتحقق التوازن بين تفاعلات المنظومات الثلاث (المحيط الحيوي، والمحيط الاجتماعي، والمحيط المصنوع) وتحافظ على النظم البيئية وحسن أدائها، أي أن التنمية المستدامة هي تعبير عن قيمة العلاقة بين المكان والمجتمع مما يحقق نوعًا من الاتزان والدعم المتبادل في العلاقات بين الإنسان كمورد بشري والمكان كمورد طبيعي وعمراني. لذلك فالاستدامة تعني التواصل بين أبعاد أساسية من أهمها التواصل الاجتماعي من خلال رفع مستوى الفرد في المنطقة ودعم انتماء الجماعة للمكان بالإضافة إلى الحفاظ على التقاليد والنسق الاجتماعي المتوارث للمكان، أما البعد الاقتصادي فيتمثل في رفع مستوى الفرد في المنطقة وتنوع مصادر التمويل، والبعد البيئي فيركز على إشغال المكان واستغلاله لتبقى الحياة قائمة فيه مما يجعل فرصة الحفاظ عليه عمرانيًا قائمة بالتطوير والتغيير دون فقدان لهوية المبنى أو المنطقة، والبعد الثقافي يركز على تنمية الوعي الثقافي بالقيمة التراثية وإبراز أصالة المكان وتميزه، فالتنمية والاستدامة عمليتان تعتمدان على التدرج والشمولية والتكامل بين أبعادهما المختلفة.

مما سبق نستطيع القول: إن التراث المستدام يتأتى من خلال طريقة البناء باستخدام مواد محلية طبيعية سهلة المنال (جذوع النخيل والدعون والسمة) وصديقة للبيئة (الصاروج والطين والجص العماني)، أضف إلى أن المعماري العماني قد صمم بناءه بما يتلاءم ومعتقداته الدينية واحتياجاته الاجتماعية من خلال تصميم بيوت الحارات غير المتقابلة لخصوصية اجتماعية ودينية (حارة اليمن بولاية إزكي، وحارة البلاد بولاية منح)، هذا فضلًا عن إضافة نوافذ وفتحات تهوية (مراق) بارتفاعات علوية تحقق الهدف الإنشائي منهما، وهو التهوية والإنارة والتواصل في آن واحد دون أن يكشف الجار جاره.

أما فيما يخص القوانين المحلية والعربية (دول مجلس التعاون الخليجي) التي تعنى باستدامة التراث فيقول الدكتور زكريا طعمة: خطت دول المجلس خطوات جيدة- مع تفاوت بينها- نحو العمل على صيانة وترميم وتأهيل المباني التراثية بما يتلاءم واستخداماتها الجديدة وضمن الإمكانيات المالية المتاحة، فمثلا بلدية دبي أنجزت ترميم وتشغيل واستدامة معظم المباني وسط المدينة التراثية، كما دخلت بقوة المملكة العربية السعودية في صيانة، وتأهيل واستدامة المباني التراثية في مختلف أنحاء المملكة لتتواءم مع توجهات المملكة في الانفتاح على السياحة العالمية، وخير مثال على ذلك وسط مدينة الرياض وأخيرا فالاستدامة لا تأتي إلا من خلال تحقيق منظومة تنمية شاملة متكاملة أساسها المكان والإنسان، تحافظ على التراث كمورد وعلى البيئة العمرانية المحيطة كجزء لا يتجزأ من هذا المورد.

العودة إلى الهوية

تشدد الدكتورة نعيمة بنت أحمد بن قاري، أستاذة مساعدة في قسم الهندسة المدنية والمعمارية بجامعة السلطان قابوس، على أهمية وضع المصطلحات في سياقها الفكري والتاريخي. تعرِّف المكان كفراغ أو فضاء، ولكن تبرز أهمية المكان كفراغ يتجسد بالمدلول الحسي والمعيشي. يتحول الفراغ إلى مكان عندما يرتبط بالأفراد عاطفيًا، سواء بذكريات الطفولة أو ذكريات أخرى. يكون المكان مستودعًا للذاكرة الجماعية ومقرًا للروابط الإنسانية التي تتعزز مع مرور الوقت، مكان تنسجم فيه شخصية المجتمع وتتوارثه الأجيال.

تثبت الصعوبة في تصميم فضاءات جديدة لتكون أماكن ملهمة لسكانها، إلا إذا كانت تحمل تفاصيل وأشكالًا تربطها بالذاكرة الجماعية للمجتمع وتراثه المعماري والعمراني. تبرز الأماكن بتصميمها التاريخي وتضمُّ ما يحملها من ذاكرة اجتماعية وأعراف وتقنيات محلية في التصميم والبناء. تُلقي الضوء على أن التراث لا يقتصر على الزمن البعيد بل يشمل الأحداث والأحوال التي شهدها المجتمع على مر الزمن.

مشددة على البعد عن الموروث، تقول الدكتورة نعيمة بنت أحمد بن قاري: إن منطقتنا دخلت حلقة الركود والضعف منذ انهيار الدولة الإسلامية في بدايات القرن التاسع عشر، وتستشهد بقول ابن خلدون حول انجذاب المغلوب للاقتداء بالغالب، مُوضِّحة كيف أدى ذلك إلى ترك العرب لعمارتهم وعلومهم ولغتهم لمحاكاة الغرب، مما أفضى إلى قطيعة طويلة مع تراثهم.

كما تؤكد الدكتورة على هجرة مدننا الإسلامية وترك حاراتنا القديمة، حيث تتساقط جدرانها وأسقفها وتمحى آثار بناتها، مُركزة على أن الغرب المستعمر قام بتشويه صورة المدينة الإسلامية منذ بداية استكشاف إنتاج الحضارة الإسلامية. وتشير إلى استهزاء المستشرقين الأوائل بالعمارة الإسلامية في التسعينيات من القرن التاسع عشر، وكيف أدى ذلك إلى تحطيم قيمتها الإبداعية. بالإضافة إلى ذلك، تنوه عن الإصرار على نقل تلك الأفكار المغلوطة في الكتب والأبحاث، وكيف يؤثر ذلك سلبًا على المفهوم الحالي للمدينة والعمارة الإسلامية، مُبرزة أهمية إعادة تقييم هذا التراث وتجاوز النظرة المسبقة.

وعن فكرة تحقيق العمارة أركان الاستدامة تقول أستاذة الهندسة المدنية والمعمارية في كلية الهندسة بجامعة السلطان قابوس: أفكار عمارة الحداثة بُنيت على أساس الأبعاد المادية للإنسان، كما أن المباني والمدن تطوّرت لتكون مشابهة للآلات كما روّج له «فكر كوربوزييه»، الذي وفّر حلا مؤقتًا لإعادة إعمار المدن الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.

وتعتبر «بن قاري» أن هذا النهج قد انتقل إلى ثقافات ومجتمعات ليست غربية، وأدى ذلك إلى تسويق المباني والتقنيات بشكل لا يتناسب مع احتياجات هذه الثقافات. مسلطة الضوء على إلغاء فكرة المحيط واعتماد مبدأ التصميم على الصفحة البيضاء، مما أدى إلى ظهور مشاكل نفسية واجتماعية مرتبطة بهذا النهج.

وفي هذا السياق، تشير أستاذة الهندسة المدنية والمعمارية في كلية الهندسة بجامعة السلطان قابوس إلى العقبات التي واجهت هذه العمارة الحديثة، وسلسلة هدم المباني في فرنسا وغيرها كدليل على فشل هذا الفكر.

وحول إمكانية أن يتيح التخطيط الحضري الحالي تحقيق متطلبات الاستدامة في العمارة تقول الدكتورة نعيمة بنت أحمد بن قاري أستاذة مساعدة في قسم الهندسة المدنية والمعمارية في كلية الهندسة بجامعة السلطان قابوس: هناك أبحاث قيمة حول القوانين والتشريعات والأعراف المحلية ودورها في تكوين المدينة الإسلامية وأحيائها وأظهرت هذه الأبحاث مصادر قيمة للتشريع المحلي في البلدان العربية، ومن المفيد أن نذكر بعض التشريعات الإسلامية التي قادت ونظمت تأسيس وإدارة المدينة بمبانيها فمبدأ لا ضرر ولا ضرار يجعل الناس يفكرون في راحتهم وراحة جيرانهم مما يوطد العلاقات الاجتماعية، ويكرس روح الرحمة والتعاون بين الناس كذلك فكرة موقع المباني في المدينة مثلا «المسجد» الذي حدد مساراته من حيث وصول صوت المؤذن ووصول ساكن أبعد بيت للمسجد بعد الأذان للمسجد مشيًا.. وهذه المبادئ تكاد تتطابق مع الأفكار المعاصرة للمدينة المستدامة التي يستطيع سكانها المشي والوصول لمختلف أماكن أعمالهم وتسوقهم وترفيههم وغيره في 15 دقيقة أو يسمى مدينة الربع ساعة.. بتشريعاتها المحلية المستقاة من التراث الإسلامي كانت مدننا الإسلامية مدن 15 أو 20 دقيقة منذ القرن السابع الميلادي بينما وصلت الفكرة هذه عند الغرب في القرن 21 ويمكننا أن نتحدث مثلا عن مبدأ الاقتصاد الدائري الذي يعتبر من ركائز المدينة المستدامة في النظرية الغربية إلا أن هذا الاقتصاد كان قائمًا وناجعًا في مدننا قبل انهيار الدولة الإسلامية، وتقع حضارتها في ظل التجاهل والنسيان.. وما أريد قوله: إنه من الممكن ومن العملي جدًا تطوير التخطيط الحضري في مدننا حاليًا نحو تأصيل تشريعاته بمقومات حضارتنا وهويتنا الإسلامية التي هي موجودة ومكتوبة وموثقة، وفي الوقت نفسه أثبتت أنها تتناسق تمامًا مع فكرة التطبيق الفعلي لمبادئ الاستدامة.

ثنائية قطبية التراث والمعاصرة

من جهته، يشدد المعماري السوري عمر عبدالعزيز الحلاج الفائز بجائزة جائزة الآغا خان للعمارة في دورة عام 2007 (عن دوره في إدارة عملية الحفاظ على مدينة «شبام» التاريخية في حضرموت) ويعمل رئيسًا لفريق خبراء مشروع تنمية المدن التاريخية في اليمن مع وكالة التعاون الفني الألمانية يشدد على أن الاختلاف الكبير بين «التراث» و«المعاصرة» ينبغي أن يُفهم بشكل أكثر دقة، حيث يرى أن الفصل الذي يحدث بينهما يعود إلى تقلبات اجتماعية واقتصادية سريعة في الحاضر، كما يُظهر أن الأفكار التقليدية حول ثبات الماضي تعكس نقصًا في معالجة التحولات الحالية والتأثيرات الروافع الأيديولوجية والمؤسسية.

في ظل هذا الوضع، يرى المعماري السوري عمر عبدالعزيز الحلاج أن خطاب الحفاظ المعاصر على التراث أصبح خطابا متأرجحا بين نزعتين متناقضتين ولكنهما وجهان لعملة واحدة: الأولى: خطاب نخبوي مثالي يقوم بتجميل وتغليف التراث وفقاً لأطر ومعايير جمالية مثالية منفصلة عن الواقع، تستهدف إنتاج نماذج ونسخ أثرية صالحة للعرض المتحفي فحسب، ولا تلبي حاجات ورغبات المجتمعات الحقيقية. والثانية: خطاب شعبوي يتبنى مفاهيم التراث ويتلاعب بالمشاعر الجماعية حياله لتحقيق أهداف سياسية، ولكن من دون فهم حقيقي أو معاش لقيمة التراث الحضاري بالنسبة للمجتمعات. وقد أفضى هذا التأرجح في الخطاب بين النزعتين إلى نتيجتين سلبيتين: الأولى: إنتاج نماذج وعمليات حفاظ منفصلة عن الأطر المؤسسية والثقافية المجتمعية، وبالتالي غير قابلة للاستدامة والاستمرار إلا بدعم خارجي. الثانية: الاكتفاء بتوفير حماية قانونية شكلية سلبية للموروث التراثي دون الاهتمام الفعلي بل وحتى منع أي محاولات لتطويره وتفعيله من قبل أفراد المجتمعات أنفسهم. وفي كلتا الحالتين، ينتهي الأمر إلى استبعاد وإقصاء التراث خارج دائرة الحياة الاجتماعية الحقيقية، ووضعه في قفص ذهبي متحفي بعيد عن تفاعل وتجربة الناس المعاشة معه.

التراث المعماري والاستدامة

في سعيه لفهم قضيتنا، يبرز المعماري العراقي الدكتور علي ثويني أهمية توضيح مفهوم التراث، مشيراً إلى استمرار عمليات التفريق بينه وبين التاريخ والفولكلور، وتقسيمه إلى جوانب مادية ولامادية، ويركز على ضرورة إعادة تداول التراث العمراني والمعماري الذي ألقت عليه الحداثة بظلالها، مع التأكيد على إحيائه وتوظيفه بشكل مستدام.

من خلال رؤيته، يستعرض الدكتور ثويني الارتباط القوي للثقافة العربية بالتراث، مُظهرًا تفوق التراثيين في ثقافتنا وأثرهم القوي، ويرصد تأثير المهلهل الحضاري بوجود الحداثة التي تبدو وكأنها تنطلق من ضفة أخرى، مع التأكيد على أن تغير الحاجات الفكرية يستلزم تغيير مفهوم ما يُطلب من التراث.

وفي ظل تلك التحولات، يبرز الحاجة إلى توظيف مفهوم «ما بعد الحداثة» بشكل استدامة، حيث يتجاوز النظرة الشكلانية للحداثة ليكون مفهومًا متكاملا يربط بين التراث الإسلامي والحداثة، مما يسد الفجوة التي أوجدتها تيارات الحداثة.

ويضيف «ثويني» تسليط الضوء على مفهوم «العمارة البيئية» ودوره في رعاية البيئة وتطوير المجتمعات. يشير إلى أن الإسلام يرى الكون والبيئة ككائنات تتشارك في الخلق، مما يجعل العناية بالبيئة جزءًا من إعمار الأرض والمقاصد الإسلامية.

في نهاية المطاف، يشدد الدكتور علي ثويني على أهمية توجيه التطور العمراني نحو الاستدامة ودمجه بفعالية في تراثنا الثقافي ليكون جسرًا رصينًا يربط بين الماضي والحاضر، ويُسهم في بناء مستقبل مستدام لثقافتنا.

التلاعب دون وعي

من جهته، يعتبر المهندس اليمني فاروق علي أحمد محرم (مهندس معماري مهتم بالتخطيط الحضري) أن التغيير في علاقة الإنسان بالطبيعة حدث دون وعي أو إدراك، حيث استخدم التكنولوجيا بدون تفكير لابتكار أشياء تتعارض مع الطبيعة، كما يشدد على أن الإنسان الحديث أصبح يعيش في آلة، حيث ارتفع فوق الأرض وانفصل عن محيطه القريب، ما أدى إلى انقطاعه عن تراثه الاجتماعي والثقافي. وفي هذا السياق، ويرى «محرم» أن الإنسان أصبح نسخة مكررة بلا تراث ولا هوية. من ناحية أخرى، يظهر في الجانب البيئي أن الإنسان بدأ يشعر بتداول التلوث البيئي وتأثيرات التغير المناخي. يعتبر ضرورة استدامة البيئة ضرورة لاستمرار الإنسان على وجه الأرض، وبالتالي بدأ يعتمد على العمارة الخضراء ويخطط لتقليل استهلاك المساحات وزيادة المساحات الخضراء. وفي الناحية الروحية، تظهر النتيجة الحتمية لهذا التغيير في المجتمعات الحديثة، حيث يعاني الإنسان من نقص وخواء روحي، على الرغم من التقدم المادي. يُشير إلى أن التطور المادي المفرط أثر سلبًا على الروح الإنسانية، وأن الإنسان الحديث يجد الكمال الروحي في المجتمعات التقليدية التي لم تتبنَ تقنياته المتقدمة. بهذا، يتجلى الفارق بين التقدم المادي المستدام والاحترام للتراث والهوية، وبين التطور المادي الزائد وانفصال الإنسان عن جذوره الثقافية والروحية.

ويؤكد المهندس فاروق محرم أن المجتمعات التي تجنبت موجة الحداثة المفرطة تظل مستدامة وإنسانية، حيث تمتلك نسيجًا عمرانيًا متشابكًا يعكس تفاعل الإنسان مع البيئة. هذه المجتمعات العربية والإسلامية تعتبر متاحف حية للتراث والهوية المحلية، ورغم ذلك تواجه بعض المشاكل الحضرية التي تؤثر بشكل طفيف مقارنة بالمجتمعات المفرطة في الحداثة.

وفي هذا السياق، تتعامل هذه المجتمعات مع التحديات الحضرية بطرق متفاوتة، حيث يعتمد الرد على هذه التحديات على الإمكانات المالية والأمنية والاقتصادية للمجتمع، فبعضها يعاني من عدم الاستقرار الأمني أو التدهور الاقتصادي، في حين يعاني آخرون من تحديات التضخم السكاني. يتأخر تحقيق الاستدامة في تلك المجتمعات نتيجة لتلك التحديات، وقد تكون أولوياتها توفير وحدات سكنية لمواجهة التضخم، ورغم ضعف الوعي بأهمية الاستدامة، يشير محرم إلى أنه يمكن تدارك ذلك من خلال التوعية المجتمعية وتنفيذ مشاريع وخطط وطنية تضع قوانين تنظم البناء والتخطيط الحضري، بهدف تحقيق توازن بين التطور والاحترام للتراث والهوية المحلية.

وحول الوضع في «اليمن» الشقيق يقول المهندس فاروق محرم: إن اليمن تعتبر إحدى الدول التي لم تتأثر كثيرًا بموجة الحداثة، ربما بسبب حالة عدم الاستقرار التي تعيشها بين كل فترة وأخرى، ووجود العديد من التجمعات المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي، حيث إن التشوه الحضري في التجمعات العمرانية اليمنية هو بسبب انعدام الاستقرار وغياب الرقابة والضبط، ونتيجة لذلك تشكلت تجمعات عمرانية عشوائية لا هي بحداثة المدن الغربية أو العربية الحديثة، ولا هي متلائمة مع النسيج العمراني القديم، وليس لها بنية أساسية، وإن تم استحداثها تكون تحصيل حاصل، ويكون معيار تحقيق الاستدامة غائب تمامًا، وبالتالي أصبحت التجمعات العمرانية اليمنية الأصيلة مهددة بالشطب من قائمة التراث العالمي، وأصبحت غير قادرة حتى على استيعاب البنى الأساسية، كما أصبحت ذات مشاكل حضرية أساسية قد لا يمكن معالجتها إلا بالإزالة، إلا أن ما يبعث على التفاؤل هو أن الجيل الحالي جيل متمسك بهويته إلى حد مقبول ومرضٍ، كما يتخرج سنويًا من الجامعات اليمنية والعالمية مئات من الشباب اليمني المتخصصين في الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري وعندهم الكفاءة في التخطيط والتصميم البيئي المستدام والحفاظ على التراث العمراني والإنساني الأصيل لكل التجمعات المحلية في اليمن إذا ما استقرت وتوفرت إرادة تتيح لهم الفرصة وتعطيهم الصلاحيات للتنظيم والإدارة.

الخلاصة والنتيجة

شدد جميع الخبراء في العمارة والمشاركين في هذا التحقيق في جزئيه «الأول» و«الثاني» على أهمية الاستدامة في تصميم وتخطيط المدن، حيث ركزوا على أهمية استخدام مصادر الطاقة المتجددة وتحسين كفاءة استخدام الطاقة والمياه والمواد، وتشجيع استخدام مواد صديقة للبيئة إضافة إلى النقل العام والدراجات الهوائية، ووجد المشاركون أن الاستدامة في العمارة تتطلب توفير بيئة حيوية صحية ومريحة للسكان، إضافة لتعزيز الاتصال والتفاعل بينهم وبين المكان المبني، وتحسين جودة الحياة بشكل عام.

بالإضافة إلى ذلك، يؤكد الخبراء على أهمية الحفاظ على التراث والهوية الثقافية للمنطقة، وإعادة النظر في تصميم المدن والأحياء بطريقة تحترم التراث وتعزز الهوية الثقافية للمنطقة، وأن الحفاظ على التراث يعتبر جزءًا من الهوية والانتماء للمنطقة، ويجب إيجاد حلول للحفاظ عليه وإعادة إحيائه بشكل مبتكر ومستدام للأجيال القادمة.

كما يشير المشاركون إلى أن استدامة المكان تتأثر بعوامل عديدة ومتداخلة، ويجب النظر إلى هذه العوامل بشكل متكامل لضمان استدامة المكان، ومن بين العوامل التي يجب النظر إليها هي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأمن، بالإضافة إلى الاحترام والمحافظة على التراث والذاكرة المكانية، وأن الاستدامة للمكان لا تقتصر على العناصر المادية والبنية فقط، بل تشمل أيضًا العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

كما شددوا على أن الاستدامة في العمارة تبدأ من الإنسان نفسه، ويجب أن يتم التعامل مع المكان بشكل متكامل ومتوازن، وأن الاستدامة في العمارة تتطلب فهمًا عميقًا لتجانس الطبيعة في المنطقة المحيطة، واستخدام الموارد المتوفرة بشكل مناسب وبناء مبان صغيرة وبسيطة ومتكاملة في نسيج المكان، وترك مسارات الأودية والشعاب للمحافظة على التوازن البيئي، بهدف تحسين حياة الإنسان والحفاظ على البيئة والموروث الحضاري للشعوب. وتشمل العمارة المستدامة استخدام التقنيات التقليدية والمواد المحلية في البناء، والتحكم في استهلاك الطاقة والمياه والمواد الخام، وتوفير التهوية والإضاءة الطبيعية، وتصميم البناء بحيث يتناسب مع الحالة الاجتماعية القائمة، مما يعزز التناغم البصري والجمالي للمكان ويسهم في الحفاظ على التراث المعماري والثقافي للمنطقة. في حين أتفق المختصون على أن العملية الحقيقية للحفاظ على التراث العمراني يجب أن تشمل جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك السكان المحليين والمؤسسات الحكومية والخاصة والمنظمات غير الحكومية.