أنساغ "عويش" / القيامة
تذكارًا بها ولها
قال تعالى:«يوم يفرُّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه» («عبس»)
كان الطين يشبه الماء، وكانت الأشياء قد بدأت بالكاد، بَيْدَ أننا لم نكن نعرف أسماءها، لذا كان علينا أن نشير إليها بالنَّواجذ والأصابع كي نقولها (كما في «مائة عام من العزلة» لماركيز)، أما الأشياء التي ما كانت فما قُلنا لها أن تكون، ولا أتذكر بالضبط إلى أي اتجاه ذهبت أول إشارة من سبَّابتي في ملكوت مجز الصغرى، ولا أستطيع الجزم أن كل روحي الحليبيَّة الصغيرة كانت ترضع أصابعها نحو «عويش»، ومع ذلك فقد كان المَدَاد الأسود المُستخلَص من أحشاء «العُوُق» (الحَبَّار) هو الحِبر، أما أداة الكتابة فقد كانت أماليد صغيرة استلهمناها وفعَّلناها من خشب الأشجار الهش في شكل أقلام، وقد كانت نهاية تلك العيدان الخشبيَّة الصغيرة، حيث الجزء الذي تتدفق منه الحروف، والتاريخ، والضَّنى، والإدقاع، مبرِيَّةً بصبر وتؤدة في هيئة سِنِّ قلم الحبر، ولكننا كنا نكتب على الزمن والريح، وكان شَعر رأسها الأسود القصير مثل الذكريات، والمدهون بالزَّيت الفاقع متَّسخًا، ولامعًا، ورائحته مضطربة مثل رائحة الهند، أو مترنحة كما رائحة الأسماك التي يعود بها الصيادون عند الظُّهر بعد أن كانوا قد ذهبوا إلى البحر عند الفجر، مثل أيامنا وليالينا في انتظار المطر بعد صلاة الاستسقاء، أو في انتظار الأخبار التي تجلبها سيارة «اللاندروفر» المهيبة الجليلة من مكتب الوالي في مركز الولاية، وكانت «عويش» تضع «الشَّمْبَر» (غطاء رأس تقليدي كانت تضعه الصغيرات والصَّبايا على رؤوسهن، وهو أشبه ما يكون بِطاقيَّة الذكور ولكن بزركشةٍ وزخرفةٍ أعظم، وحِسِّيَّةٍ أكبر، وقد انقرض في الثقافة الأزيائيَّة العُمانيَّة المعاصرة ربما باستثناء ما يظهر في الأغاني التي تستدعي التراث والفولكلور في التلفزيون خلال المناسبات الوطنيَّة)، وسأحاول إكمال كتابة هذا النص من دون الاضطرار إلى التلفزيون، أو المناسبات الوطنيَّة، أو لنقطة نهاية السَّطر، ثم صارت «عويشة» ترتدي «الليسو» (ولا أريد أن أكون مضطرًا لإيضاح معنى هذه الكلمة لعلماء الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في جامعاتنا الوطنيَّة)، وكانت تجلب الماء من «البطحى/ البطحاء» حين صار خصرها يستدير ويَضمر قليلاً ويُضمر كثيرًا مثل كل الأزقة الملتوية في قريتنا الضئيلة، وكل استمرار في هذا الكلام لا يعني أحداً سواي فأنا أقوله بعد خمرة الصباح وقهوة الليل، ولكن حدث ما حدث حين انسربت القَطَرَات إلى الصَّخر، والحجارة، والأخاديد التي بين العين والماء، في الهيولى التي منها اندلقنا غُبَّ الكتاب الأول إلى القرى، والمدن، والأحبار، والقراطيس، والفشل، والضحكات السريعة، والهزائم، والمواعيد، في ما هو قبل الفلسفة وبعد الشِّعر، في وَجْدٍ لم أعرفه في مسجد قريتنا في إذلالات خُطب يوم الجمعة ولا في رسالة كافكا إلى أبيه، في التباسٍ عويصٍ من الالتباسات التي تحدث ولا بد لها أن تحدث، في نظرة غائرة ومتطفِّلة تحولت إلى هشيم وحطام، كأن الفلاسفة ما قبل السقراطيين يجادلون كلام الرب في الإنجيل في مقولة «في البدء كانت الكلمة»، في مكانٍ ما خارج الزمان (وهو مكان عتيق مثل رائحة الليمون اليابس، أو الاستحالة، أو كما رائحة البهارات في سوق صحم القديم وحوانيته التي ذهبت إلى الأبديَّة مع شمبيه البلوشي الذي كان يبيع «الزَّلابيا» و«اللقيمات»، وهو يتبرع بالريال الواحد الوحيد الذي كسبه طوال اليوم لصالح المجهود الحربي في حرب أكتوبر 1973، ولم يتورع عن الحلم بتحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر حين ذهبت لزيارته قبل سنوات قليلة قبل أن يذهب إلى القبر، وقد كان يؤكد لي أن البعثيِّين الغادرين هم من قتلوا غيلةً جمال عبدالناصر، وأنه شخصيّا شارك في الحرب الثوريَّة التحرريَّة التي شنَّها ناصر بن مرشد لتحرير عُمان من المستعمرين البرتغاليين في القرن السابع عشر، وأنا أصدِّقه بالكامل وبلا أدنى تحفظات)، أو رائحة اللاشيء في روايات الرومانسيين الألمان، وغير مهادن مثل الاستحالة أيضا، في بقعةٍ ما من زوايا هذا النص وتلك البيوت السَّعفية المنثورة والمنشورة مثل الفوضى، أو العار، أو العنف البدائي والفطري ضد لا أحد، أو حبَّات لؤلؤ في عقد منفرط وصدئ، أو كما نداء (SOS) [«انقذوا أرواحنا»] مكتوب من الأعالي الثوامن بصورة تُرَاوِح بين الغضب العارم وبين الرجاء العاجز في وجه الزُّرقة التي لم تكن قريبة بل كادت، ولم تكن نائية بل كانت، هبَّت ريح صرصر عاتية، «غَربي»، و«كوس»، و«شماليَّة» مع «أربعين المريعي» (تقريبا دفعة واحدة) وأنا في القماط، فتساقطت ثمار «الهمبا» (المانجو) على أديم الأرض وكل شبر في المزرعة الغربيَّة للوالد («السَّعيديَّة»)، ورأيت -فيما رأيتُ- تَعُّوب الكحَّالي وهو يتفكَّر على الشاطئ مُجَدِّلاً القوارب في كل ذلك العسف والعصف، ولا أدري بالضبط كيف رأيت حماراً أبيض اللون في المزرعة الشرقيَّة للوالد («القبيليَّة»)، وابتلع أحد الدلافين البحر (شاهدت فيلم سيرغي بارادغانوف «لون الرُّمان» بعد سنين طويلة من ذلك، وسيعتقد البعض -وأنا أعذرهم- أن هذه المعلومة لا علاقة لها بالموضوع)، ولا أعلم كيف يمكن للاستطراد أن يكون، ولا أدري كيف كنت ألعب مع طفلة أمام البيت في ظهيرة مصير قائظ، وإذا بها تتقيأ، وتزيح أطراف ثوبها (بتهذيب بالغ وغير ضروري أبداً) كي لا يلحقها القيء، ثم تخرُّ على الرمل، وسمعت الكثير من العويل، وتسللتُ إليهم وهم يغسلونها ويكفِّنونها، فانتبهوا لي وأبعدوني صارخين أنه لا ينبغي لي أن أكون في حضرة الموت، ولم أعُد أنا أنا إلى الآن كما أنا، ثم جاءت تلك الدَّابة الرهيبة التي ابتلعت قَمَرَنا الصغير، فأصبحنا بلا ضوء في الليل، وأخفق «صراج السِّح» (فانوس التَّمر) في أن يضيء حتى الخطوة التالية إلى الخوف والفقد، ورقصت امرأة لحبيبها في عُطارد على موسيقى «الفلامِنكو»، وقد دَقَقْنا وقَرَعْنا ما يكفي من الصُّداع، والآذان، والقدور، والصحون، والصواني، وبقية الأواني النُّحاسيَّة الفارغة مثل بطوننا كي تذهب عن قمرنا الأثير تلك «الهايشة» (الدَّابة)، ونجحنا في ذلك المسعى، إذ لا يزال القمر يشرق على مجز الصغرى في مواقيته، وقد باحت لي «عويشة» بسرٍّ خطير حول ذلك الخَطْبِ الجَلَل، وائتمنتني عليه بشرط ألا أخبر به أحداً، لكني سأفيض به الليلة كما يفيض البحر عن أشعار سان جون بيرس، فقد أسرَّت لي أن الأمر إنما يتعلق بحرب ضروس وصراع كبير يدور بين قمرنا (نحن سكّان الساحل) من جهة، وبين قمرهم (سكان «السِّيح»/ البادية) من ناحية أخرى، وستستمر هذه المعركة لبقية الزمان، لكن الغَلبَة، في نهاية المطاف، ستكون لصالح قمرنا، وهذا الصراع مرتبط أيضًا بالعراك بين بحرنا المربوط بـ«شِيْجَة» (وهي أُملود خشبي صغير) وبين بحرهم المربوط بالسلاسل، ولكن بحرنا سيتحرر من «شيجته» ويهجم على بحرهم المربوط بالسلاسل فيغرقه، وهكذا فقد أُصِبتُ بالماء، وحين يحدث الخسوف كنت أصرخ بصوت عالٍ، وكانت القرية تهرع إلى أمي لمساعدتها، وقد قالت لي مريم إبراهيم: «لم يكن يصرخ أحد من إخوانك أو أخواتك كما كنت تصرخ حتى بعد أن نزوِّدك بـ «ماي غريب» و«سركا صالح»، فصراخك العالي أدركنا بالفضيحة، ولو كنتُ شاعرًا عظيمًا لكنت قد ربطتُ بين صراخي وكسوف الآبار وخسوف الأشواق في القرية، لكني لست شاعرًا عظيمًا، ولو كنتُ شاعرًا عظيمًا لفهمت ما كان يحدث في فيلم “Burn!” لجيلو بونتيكورفو الذي شاهدته في أمريكا بعد سنين طويلة من الكسوف والخسوف في مجز الصغرى، فقد كان على المرأة أن تأخذ جثمان زوجها، بمعيَّة أطفالها، بعد إعدامه مقصولا وهي تجيب بهدوء قاتل عن الأسئلة، وأتذكر بازوليني: «كلُّ الحياةِ مونتاج»، وأتذكركِ الليلة يا «عويش»، وآه يا «عويش»: لماذا يحدث لي كل هذا في هذه الليلة؟
