أضاميم.. حياة مع القرآن منذ فجر الطفولة
لوالدِي حفظه الله وأطال في عمره، حياة مع القرآن الكريم، بدأتْ منذ فجر طفولته، لتصل به اليوم إلى سِنِّ تلامس الشيخوخة، كنت أراه يتكئ على عُكازين، ويسير إلى مدرسة تعليم القرآن بقدمين، يَرسُمَان على الطريق المُترِب خَطاً، تدلُّ عليه أنه مَرَّ مِن هنا، وأراه يذهب مُعلِّماً إلى المدرسة بين صَبَاح ومَسَاء، فلا يَعرِف إجازة مَرَضِيَّة، ولم يَغبْ يوماً عن تلاميذه، وكنت أذهب معه، حاملاً في يدي المُصحَف الشريف المَطوي داخل بَخْشَة من قُمَاش، وحين وصولنا، أسمع همس بعض التلاميذ: (المُعَلَّم جَايْ)، فيدخلون سِراعاً، أو ينتظمون حلقة دائرية تحت ظلال شجرة «الصِّبارة» المجاورة للمدرسة.
كان عدد التلاميذ بعدد أبناء وبنات القرية، من هم في سِنِّ التعليم، ويزيد عددهم في الإجازة الصيفية للتعليم النظامي، وما دام ثمَّة متسع للجلوس، فليأت من يرغب في تعلُّم القرآن، وأغلب أبناء القرية تعلموا على يديه، فقرأوا معه «حُرُوفَ أليف»: (ألف ليس له، باء تحته نقطة، تاء فوقه نقطتين، ثاء فوقه ثلاث نقط، جيم تحته نقطة، حاء ليس له، خاء فوقه نقطة، دال ليس له، ذال فوق نقطة، راء ليس له، زاء فوقه نقطة، سين ليس له..) إلخ تمام الحروف.
وقرأوا بعضاً من السور القصار «هَجْواً»، بنَثْر حروف الكلمات، فإذا أراد التلميذ قراءة «البَسْملة»، يقول: (بسم) باء سين ميم، (الله) ألف لام لام هاء، (الرحمن) ألف لام راء حاء ياء ميم، (الرحيم) ألف لام راء حاء ياء ميم.
ثم نقرأ الكلمات بعلامات الإعراب، فتحاً وضماً وكسراً وسكوناً: فحين نعرب كلمة (بِسْمِ) نقول: بي كسرة بي، أسْ سكنة أسْ، مِي كسرة مِي بِسْمِ .. الخ، أو نقرأ الحروف بالتنوين، فننطق: حرف الباء هكذا: با فتحتين، بي كسرتين، بو ضمتين، تا فتحتين، تي كسرتين، تو ضمتين، إلى أن تنتهي الحروف، وفي حالة الشد نقرأ حرف الباء كالتالي: بَّ شدة وفتحة بَّ، بِّ شدة وكسرة بِّ، بُّ شدة وضمة بُّ: ليسهل علينا نطق الحروف والكلمات، حين نشرع في قراءة القرآن بعد ذلك.
وكان أبي يقرر على كل متعلم في اليوم قراءة صَفْحٍ من القرآن، وهو ما يعرف بالرُّكُوع، يُميَّز في المصاحف القديمة بعلامة (ع) في هامش الصفحات، وكانت قراءة الرُّكوع درس يتعلمه التلميذ، فإن أجاد قراءته ينتقل إلى صَفْحٍ آخر، وإلا يبقى فيه حتى يجيزه المعلم.
كنا أطفالاً، بنينا وبنات، نلتقي تحت سقفٍ واحد، وتُسْمَع قراءتنا من بعيد، كدَوِيِّ النَّحْل، وتختلط أصواتنا بشَدْو العَصَافير حين نكون تحت الشَّجرة، ونختلف في جلوسنا من مكان إلى آخر، كالطيور تطير من غصن إلى آخر، وتبدو قراءتنا أشبه بهمس الملائكة في الليالي البِيْض، نقرأ القرآن تلاوة، بالقَدَرِ الذي تسمح به حناجرنا، ونجتازه من صَفْح إلى آخر، ومن حِزْب إلى آخر، ومن جزء إلى آخر، وتمضي الأيام والسَّنوات على المُتعلم، حتى يأتي اليوم الذي يَخِتم فيه القرآن، وينهي قراءته كاملاً، فيُحتفل به في أوَّل حفل تخرُّج يعيشه، تبقى ذِكرَاه في القلب، وختام القرآن له طعم آخَر في نفوسنا، لأننا سنكون على موعد مع وجبة خفيفة من «الفشار أو الفرَّاخ» أو أصابع «الشَّاكليت»، ومعها مائة بيسة لكل تلميذ، يوزعها علينا والد المُتخرج، فنتقاسم تلك العَطايا، ونفرح بالهبات السَّخيَّة والمِنَح الشَّهيَّة.
وكنا ننهي اليوم التعليمي بإنشاد «الطلقة»، وبمجرد أن يأذن المعلم لأحد الطلاب أن يقرأها، نغلق مصاحفنا، ونردد معه بذات الطريقة التي يقرأ بها:
لا إلهَ إلا الله،
مُحمَّداً رَسولُ الله،
صَلَّى الله عليهِ وسَلَّم،
بأيدينا قلَم فِضَّة،
نكتب به كَلامَ الله،
آمين قدْرَة رَبِّ العَالمِين،
يا توَّابُ تُبْ علينا،
وارْحَمْنا وانظرْ إلينا،
اللطيفُ لَمْ تَزَلْ،
مَولانا عَمَّا نَزَل،
مَولانا مَولانا،
يا سَامِع دُعَانا،
في أمَّةِ مُحمَّد،
أسْكنَّا الجِنانا،
في دَارِ الشَّفِيعِ،
وسَاكِنِي البَقيعِ،
يا كاشِف بَلوَانا،
بالقُدْرَةِ والرَّفِيعِ،
ما حَد غيرَك مَولانا،
ثم الصَّلاةُ على النبي،
ثم الصَّلاةُ على الرًّسُول،
رَحِمَكَ اللهُ المَعَلَّم،
ها نحن أنهينا اليوم الدراسي، وسَنعودُ إلى لهْونا المُعتاد في الدروب، ما تبقى من شمعة النهار، حتى تغيب الشمسُ في الأفق الوردي، وراء غابات النخيل.
ترك أبي المدرسة في منتصف التسعينات، وظل ملازماً البيت، مُنكَباً على قراءة القرآن ما أسعفته صِحَّته، وبدأ نور عينيه يخفت، حتى لم يَعُدْ يرى رَسْم الآياتِ كما كان، فرأيت أن أكونَ عيناه التي يُبْصر بهما، لأقرأ له ما يَتيَسَّر، فرِحَ أبي بهذه البادِرَة، وصِرت أقرأ له كل يوم، ثم رأيت أن نبدأ بالمُصحَف الشَّريف، مع بداية الشهر القمَري بقراءة جزء في اليوم، ونضبط تاريخ اليوم برقم الجزء من القرآن، وننهيه في ختام الشهر، ثم نبدأه من جديد مع بزوغ خيط الهلال.
حاولتُ أن أتذكَّر من أبي قراءة بعض الآيات هَجْواً، وحين قرأ عليَّ البسملة، أخذني صوته إلى تلك الأيام البعيدة، حين كانَ يُعلِّم القرآن، قلت له: اقرأ لي «الطلقة»، التي كنا نختم بها يومنا الدراسي في مدرسة تعليم القرآن، حاول أن يستذكرها كاملة، فانسَابت من بين شفتيه كأغنية قديمة، حتى غالبت الذكرى صوته، ورأيت عينيه وقد اغرورقتا بالدَّمع، لعله عاد بذاكرته إلى الأيام التي كان يقضي سَحَابة نهاره معلماً للقرآن.
تلك حياة مع مدرسة تعليم القرآن، غَذَّتنا بعُذوبتها، وامتزجت آياته بأرواحنا، وقد ختمناه ونحن في ميعة الصِّبا، وفي الصفوف الدراسية الأولى، واليوم كلما مررت على مبنى المدرسة، أو الشجرة التي تعلمنا تحتها، أراني طالباً يفترش الأرض في ظلالها، فأحتضن بشوق جذعها الخشن، ونحن شرَّقنا وغرَّبنا في هذه الحياة، والشجرة ما تزال في مكانها، تعشش فيها العصافير، وتهزها الريح، وتغسلها الأمطار.
والآن وقد أوشكت الإضمامة أن تنتهي، أنهي بها تذكار يوم تعليمي، مع أبي وزملاء القرية وأصدقاء العمر، أما الأولاد فقد أصبحوا رجالاً، والبنات أصبحن أمهات، لقد كبِرْنا، وكَسَا الشَّيب عارِضَينا، وأما أبي فقد زحفت الشيخوخة إليه، وأطفأت ما تبقَّى في وجهه وبدنه من نَضَارة وإشراقة.
فيا لمدرسة القرآن الأولى، التي تعلمنا فيها أول الحروف، ويا لتلك السُّور الرائعات، تلقيناها من المُعلِّم كالوَحْي، ندِيَّة كوردة وعَطِرة كأنفاسِ مَلاك، ويا لهذا القرآن العظيم، يفتح أبواب الكون المُوْصَدَة، حتى تدنو السَّماء وتصبح قريبة، فالقرآن خير بُراق للعُرُوج إلى السَّماوات البَعيدَة، وفي مشوار العُمْر، كان القرآن إضمامة الرُّوح، أخبئها في جوانحي، فحفظت منه ما استطعت، ونسيت الكثير، وما يزال حفظ القرآن أحد أحلامي الجميلة المُؤجَّلة.
* محمد الحضرمي كاتب وصحفي عماني
