أجراس ... الرصيف: ذاكرة التيه والضجيج
"للرصيف مريدوه
لكنهم لا يذكرونه في رسائلهم
حين تمتلئ قصائدهم بالبيوت"
عبود الجابري
الأرصفة هي عروق المدن وشرايينها النابضة بالحياة. الأرصفة أوراق مفتوحة تكتب عليها الأقدام ذكرياتها وخطواتها اليومية. ثمة عابر حزين، وثمة مسافر غريب، وثمة متسكع دون مأوى، وثمة عاشق يخبئ تحت معطفه الكثير من الحنين والقبلات الحائرة.
الأرصفة تتسع لأحزاننا وضحكاتنا وأصواتنا. نحمل مظلاتنا وقصائدنا ونمضي تحت أمطارها. نتجول تحت مصابيحها حينما تهدأ المدن وتنعس أجفان العالم. نفتح نوافذنا لنطل على ضجيج الأرصفة، الذي ينقل الحياة بأسرها إلى غرفتك الضيقة. إنها تحرضنا على الغوص في الحياة، وإن كان أحيانا دون هدف واضح، ولربما كان ذلك نوعا من اقتراف الكتابة كما يقول محمد حسن علوان: "المشي كتابة أيها الشاعر، هل مارست الكتابة على الرصيف؟ إن هذا ما تفلعه الأقدام التي تدمن التيه".
***
الرصيف رفيق الشعراء، هؤلاء العابرون الذين يمرون خفافا، يحدقون في العدم ويتركون وراءهم خطوات مبعثرة وشيئا من الحنين الغامض لشيء ما. على طاولة في مقهى على الرصيف سيحتسي شاعر عابر قهوته ثم يغادر دون أن يكترث أحد، أما هو فسيطوي أوراقه على كل شيء، حتى رائحة القهوة وضحكة النادل الصفراء، ليكمل قصيدته التي تطرق جدار قلبه. تماما مثل ما فعل مريد البرغوثي حينما كتب (قصائد الرصيف)، وسمير درويش حينما كتب عن (الرصيف الذي يحاذي البحر)، وكامل الدليمي الذي تساءل (أيرقص الرصيف؟)، وستار جبار الدراجي الذي كتب عن (الرصيف العاري).
***
الشاعر محمد الماغوط يكتب عن (رجل على الرصيف) ويصفه بأن نُصفهُ نجوم ونصفه الآخر بقايا وأشجارٌ عارية. وفي قصيدة طويلة تضج بالأسئلة والوجع يقول الماغوط:
أيها الشارع الذي أعرفه ثدياً ثدياً، وغيمة غيمة،
يا أشجار الأكاسيا البيضاء،
ليتني مطرٌ ذهبي
يتساقط على كل رصيفٍ وقبضةِ سوط،
أو نسيمٌ مقبلٌ من غابة بعيدة،
لألملم عطر حبيبتي المضطجعة على سريرها
كطير استوائي حنون
أما محمود درويش فإنه يراوده ذلك الحنين الجارف للغريبة التي يرغب يوما بالجلوس على رصيفها، وكثيرا ما تحدث محمود عن الغريبة في عدة قصائد وتساءل بألم كبير (من أنا بعد ليل الغريبة؟). ثمة غرباء يمرون في حياتنا يعيدون لنا مذاق الليل وروائح الأرصفة ونكهة الجلوس على المقاهي. يقول محمود درويش:
ذاتَ يَوْمٍ سأجْلِسُ فوق الرَّصيف.. رَصيف الغَريبَةْ
لَمْ أكُنْ نَرْجساً، بَيْدَ أَنّي أُدافِعُ عَنْ صُورَتِي
في الْمَرايا. أَما كُنْتَ يَوْماً، هُنا، يا غَريبْ ؟
أما نزار قباني فتعبر أمامه سيدة جميلة فيكتب قصيدته الحالمة (سمفونية على الرصيف). لقد تحول كل ما في الرصيف، في نظره إلى، إلى عازف ماهر أو آلة ساحرة تشارك بدورها في رسم المشهد الخلاب. إنها سيمفونية جمالية متكاملة يعزفها الساقان الطريان، بينما الشاعر يستمتع بتجليات المشهد ويتابع تأوهات الكائنات وبكائها ويستشرف مكامن الموسيقى ومنابعها القصية القادمة منها، ويطالب السيدة الجميلة بأن تواصل سيرها لئلا تقطع ذلك الإيقاع البديع:
سِيري ففي سَاقَيكِ نَهْرا أغاني
أَطرى من الحِجَازِ والأصبَهَاني
بكاءُ سمفونيةٍ حلوةٍ
يغزِلُها هناكَ قَوْسا كَمَانِ
أنا هُنا مُتَابعٌ نَغْمَةً
قادمةً من غابةِ البيلسانِ
أنا هُنا وفي يدي ثَرْوَةٌ
عيناكِ والليلُ وصوتُ البِيانِ
لا تقطعي الإيقاع لا تقطعي
ودَمِّري حولي حدودَ الثواني
***
في صخب مدينة نيويورك وضجيجها الهائل، وتحت مبانيها الشاهقة ونطاحات سحابها العملاقة، وفي أحد أسواقها الباذخة، ينام الرجل الزنجي مفترشا قطعة كرتون على الرصيف، بجوار صناديق القمامة الضخمة. ظننته حين مررت به أنه أحد مدمني المخدرات أو المجرمين المشردين الذي تلفظهم المدن الكبرى حتى يلاقوا مصيرهم دون أن يلتف أحد إلى رحيلهم. ولكنني حين عدت بعد تجوال طويل، وجدته وقد وضع سجادة على الرصيف المكتظ بالمارة، وقد وضع أمامه ثلاثة أعواد طويلة من البخور الهندي وقد أشعلها، وكان متجها إلى القبلة يصلي. وبعد انتهائه من الصلاة رفع يديه إلى المساء يدعو ويناجي الله، دون اكتراث للجموع الهادرة التي كانت تمر بجانبه. وكان الجميع ينظر إليه باحترام وتقدير. بعد أن فرغ من صلاته اقتربت منه وسألته:
ـ ما الذي كنت تفعله؟
ـ كنت أصلي المغرب.
ـ من أين أنت؟
ـ أنا من مدينة بعيدة عن نيويورك. آتي هنا لكسب الرزق، ثم أعود إلى بيتي. ومن أنت؟
ـ أنا عربي من عمان. مررت من هنا قبل ساعات فرأيتك نائما.
ـ نعم، كنت مجهدا، ولا مكان لدي للنوم سوى هنا. سأغادر إلى مدينتي بعد أن يغلق السوق. أنا أستعد للمغادرة الآن. أتمنى لك إقامة طيبة في نيويورك.
لسبب أو آخر أعادت لي هذه الحادثة قصة الفيلم الأمريكي (على رصيف الميناء) (in the waterfront)، الذي أنتج عام 1954، وقد عد من أهم ما أنتجته هوليوود في تاريخها من الأفلام السينمائية. الفيلم كان ذا أهمية ثقافية بالغة في المجتمع الأمريكي وقد جاء في مرحلة كانت البلاد تشهد فيها الكثير من الاضطرابات؟ وهو يتناول جوانب من معاناة عمال الشحن والتحميل في ميناء نيويورك، وما كانوا يتعرضون له من الظلم وضياع الحقوق جراء الفساد الذي يمارسه القائمون على الاتحاد النقابي للعمال. الفيلم سلط الضوء على معاناة هذه الشريحة المسحوقة وساهم على نحو كبير في تحسين أوضاعهم لاحقا، بل إنه أسهم في تعديل التشريعات القانونية المتعلقة بالانتخابات العمالية بعد عام من إنتاجه.
***
"مَنْ هؤلاءِ؟"
يقولُ شَحَّاذٌ مَريضٌ
عندَ ناصِيةِ الرصيفْ
وُيشيرُ مُلْتَبِساً إلى بَشَرٍ
تَسيرُ مُطأطئينَ رؤوسَهمْ،
بُكْماً كَأنَّ بِهِمْ نُعاساً سَرْمَديًّا،
صامِتينَ كأنَّهمْ سُحُبٌ على زَمَنٍ كَفيفْ
لكنما الشَّحَّاذُ
يَرْقُبُ فوق دَكَّتِهِ العَتيقةِ
مَوْكِبَ الأشباح
تَمْضي بالمِظَلاَّتِ الخَفيضةِ
ثُمَّ يَلْفِظُها الخواءْ
يَتَساءلُ الشَّحَّاذُ في شَكٍّ:
ــ إلهي!
هلْ أنا أَحَدٌ سِواهُمْ؟
رُبَّما،
ولَرُبَّما أنا واحدٌ مِنْ هؤلاءْ!
***
الفيلم الفرنسي القصير (الرصيف) الذي كتبه وأخرجه كريس ماركر، يطرح أسئلة البقاء والحرب والحب والسفر عبر الزمن بحثا عن حياة أخرى مبتكرة. تدور أحداث الفيلم، وهو من أفلام الخيال العلمي، في رصيف مطار أورلي بباريس، حيث يقف صبي ينظر إلى الطائرات، وفي تلك اللحظة، ودون أية مقدمات تقوم الحرب العالمية الثالثة التي يفترضها الفيلم، وما هي إلا لحظات حتى تصبح باريس الفاتنة محض أطلال وبقايا مدينة مدمرة تصفر الريح على أنقاضها.
الأعداء المنتصرون يستخدمون المساجين والأسرى كفئران تجارب لفكرة السفر عبر الزمن. كان الرجل من بين الأسرى الذين أجريت عليهم هذه التجارب التي مات أغلب من أجريت عليهم، فيما أصيب البعض بالجنون. أما هو فقد أظهر ثباتا شجّع العلماء على مواصلة تجاربهم. يمر الفيلم بمواقف متتالية تصور الرجل وهو يمر عبر ثقوب الزمن ليعيش حياة أخرى متخيلة، حياة متقطعة ومشوشة وضبابية، شبيهة بالأحلام الغرائبية.
وينتهي الفيلم بعودة الرجل، في أحد صباحات الأحد الدافئة، إلى ذات الرصيف الذي شاهد منه انطلاق الحرب، ليرى الصبي الذي كانه يشاهد الطائرات على المدرج، ثم يلتفت لينظر إلى المرأة في أقصى الرصيف، ثم يهرع مسرعا لملاقاتها، وهي التي ما برحت تتقاطع مع أحلامه في أسفاره عبر الزمن. ولكنه ما إن أوشك على الوصول إليها حتى سقط مفارقا للحياة!
***
والهاتفُ النّقّارُ مِنْ حِينٍ لآخَرَ لا يَكفُّ عنِ الطَّنينِ: (رسالةٌ مِنْ شاعِرٍ قَلِقٍ يُلَمِّعُ في مكانٍ ما مَدائحَهُ البليغَةَ في التناسُلِ والكُحولِ وفي مَنامِ الأرصفةْ)
يَقِظٌ بما يَكْفي ليُرْبِكَ عاصِفَةْ
