ترجمة

الاقتصاد العالمي المسلح: النجاة من عصر الإكراه الاقتصادي

04 سبتمبر 2025
04 سبتمبر 2025

ترجمة: نهى مصطفى

حين أعلنت واشنطن عن "اتفاق إطاري" مع الصين في يونيو، شكّل ذلك تحولًا هادئًا في مسار الاقتصاد السياسي العالمي. لم يكن بداية عهد "التحرر" الذي تصوره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ظل الهيمنة الأحادية، ولا عودة إلى حلم إدارة بايدن بالتنافس المُدار بين القوى الكبرى، بل كان الانطلاقة الحقيقية لعصر الترابط المُسلح، حيث تختبر الولايات المتحدة ما اعتادت أن تفعله بالآخرين.

يقوم العصر الجديد على أسلحة الإكراه الاقتصادي والتكنولوجي، مثل العقوبات وهجمات سلاسل التوريد وضوابط التصدير، التي تستغل نقاط التحكم في البنية التحتية للاقتصاد العالمي. لسنوات طويلة، استخدمت الولايات المتحدة هذه الاختناقات لمصلحتها، لكن تداخل السوق مع الأمن القومي جعلها عرضة لاستغلال القوى الأخرى. لذلك عقدت إدارة ترامب صفقة مع الصين، إذ تنازلت عن بعض قيود تصدير أشباه الموصلات مقابل تخفيف الصين لقيودها على المعادن النادرة التي أصابت صناعة السيارات الأمريكية بالشلل. والنتيجة سمحت للشركات الأمريكية مثل Synopsys و Cadence بالعودة إلى بيع تقنيات تصميم الرقائق في الصين، ولشركة إنفيديا ببيع رقائق الذكاء الاصطناعي مجددًا. أوضح وزير الخارجية ماركو روبيو أن الصين باحتكارها للمعادن النادرة وضعت واشنطن والعالم أمام أزمة تكشف اعتماد الصناعة الأمريكية على خصوم محتملين، ما يغيّر طبيعة الجغرافيا السياسية ويمثل تحديًا كبيرًا في القرن الجديد.

كشف إبرام الصفقة مع الصين عن حدود قدرة الولايات المتحدة على العمل منفردة، فالعصر الحالي يحوّل الترابط الاقتصادي والتكنولوجي من فرصة إلى تهديد. كما اضطرت واشنطن في الماضي إلى بناء دولة الأمن القومي بعد انتشار السلاح النووي، عليها اليوم أن تبني دولة الأمن الاقتصادي لمواجهة خصوم قادرين على تسليح الترابط نفسه.

تكيفت الصين بسرعة مع الوضع وتبني منظومتها التكنولوجية المستقلة، بينما تعاني أوروبا، في حين تبدد الولايات المتحدة مزاياها المؤسسية والتكنولوجية تحت إدارة ترامب. النتيجة أن الفشل الأمريكي في مواكبة التحولات يهدد مصالحها الوطنية وشركاتها ومواطنيها على المدى الطويل. يُعد الترابط المُسلح الوجه غير المتوقع للعولمة التي نسجت الولايات المتحدة بنيتها التحتية حول الدولار والتكنولوجيا والمنصات الرقمية، قبل أن تتحول هذه الشبكات إلى أدوات ضغط ومنافسة جيوسياسية.

بعد هجمات 11 سبتمبر، استخدمت الولايات المتحدة البنية التحتية الاقتصادية العالمية لملاحقة الإرهابيين، ثم وسّعت أدواتها لتشمل فرض عقوبات على بنوك، وصولًا إلى عزل دول كاملة مثل إيران عن النظام المالي الدولي. تحول الإنترنت بدوره إلى أداة مراقبة أمريكية عبر المنصات وشركات البحث. ومع انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، هددت واشنطن بفرض عقوبات على الشركات الأوروبية، ما كشف عجز الحكومات الأوروبية أمام النفوذ الأمريكي. بحلول 2019، كان واضحًا أن شبكات العولمة في التمويل والاتصالات والإنتاج أصبحت مركزية بيد عدد محدود من الشركات، مما أتاح للولايات المتحدة استغلالها لتعزيز قوتها ومراقبة خصومها.

صادف بعض كبار مسؤولي إدارة ترامب بحثنا الأكاديمي، ولدهشتنا أعجبهم ما رأوه. ووفقًا لكتاب المؤرخ كريس ميلر الصادر عام ٢٠٢٢ بعنوان "حرب الرقائق"، عندما أرادت الإدارة الضغط على شركة هواوي الصينية لتصنيع الاتصالات، استغل أحد كبار المسؤولين فكرة الترابط المُسلّح كدليل لتعزيز ضوابط التصدير ضد أشباه الموصلات، واصفًا المفهوم بأنه "شيء جميل".

مع ذلك، كان هدفنا الأساسي هو كشف الجانب القبيح لهذا التسليح. أثار بحث الكتّاب حول الترابط المُسلّح اهتمام بعض مسؤولي إدارة ترامب، الذين استخدموه لتبرير تشديد القيود على صادرات أشباه الموصلات لشركة هواوي. لكن الهدف من البحث كان فضح الجانب المظلم للعولمة التي لم تنتج سوقًا مسالمًا وانما نظام مليء بالهرمية ونقاط الضعف. استخدام واشنطن لهذه الأدوات يولّد ردود فعل مضادة من الخصوم، ويحفّز القوى الكبرى والصغرى على البحث عن طرق بديلة أو مظلمة لتبادل المعلومات والموارد. النتيجة عالم يقوم على الهجوم والدفاع بدلًا من المصالح التجارية المشتركة. جعلت إدارة بايدن بدورها من التسليح أداة يومية، فوسّعت قيود التصدير لتشمل روسيا والصين، لكنها وجدت نفسها عالقة في نظام عقوبات متضخم وغير قابل للسيطرة، كما اعترف بعض مسؤوليها.

أثارت ضوابط التصدير مخاوف من أنها تدفع الصين لتطوير تقنياتها المستقلة، لكن إدارة بايدن مضت في خطة لتقسيم العالم إلى ثلاث طبقات: الولايات المتحدة وحلفاؤها المقربون، غالبية الدول في الوسط، وعدد قليل من الخصوم. الهدف هو احتكار الوصول إلى أشباه الموصلات المتقدمة وأدوات الذكاء الاصطناعي لضمان تفوق أمريكي طويل الأمد. ورغم أن إدارة ترامب تخلت عن هذه الخطة، فإنها لم تتخلَّ عن هدف السيطرة على نقاط الاختناق. المشكلة أن الدول الأخرى تبني بدورها أدوات اقتصادية ومؤسسية للرد والمقاومة.

لم تعد أسلحة الترابط المتبادل حكرًا على واشنطن، بل تستخدم ضدها الآن. تسعى الصين والاتحاد الأوروبي لتقوية مواقعهما عبر تحديد واستغلال نقاط الاختناق الاقتصادية، لكن بينما يحقق النهج الصيني نجاحًا ويمكّنه من الضغط على الولايات المتحدة، تكشف الانقسامات المؤسسية الأوروبية عن ضعفها. كشف إدوارد سنودن عام 2013 ممارسات المراقبة الأمريكية، ما دفع بكين إلى اعتبار الاستقلال التكنولوجي أولوية عاجلة، وتعزيز خطاب "أمن المعلومات" و"سيادة البيانات" كركائز للأمن القومي.

شكّل تهديد إدارة ترامب بحرمان شركة ZTE من التكنولوجيا الأمريكية، ثم استخدام ضوابط التصدير ضد هواوي، جرس إنذار دفع الصين للتركيز على مخاطر "نقاط الاختناق" وأهمية الاعتماد على الذات. استجاب الحزب الشيوعي بخطة وطنية لتعزيز الاستقلال التكنولوجي، مع التركيز على تطوير التقنيات والمنتجات الحساسة. في الوقت نفسه، سعت الصين لاستغلال قوتها في قطاع المعادن النادرة، حيث تسيطر ليس فقط على جزء كبير من الإنتاج، بل أيضًا على النظام الصناعي والتكنولوجي لمعالجتها، ما يمنحها نفوذًا استراتيجيًا في الصناعات المتقدمة مثل السيارات والطائرات.

رغم أن الصين هددت عام 2010 بوقف إمدادات المعادن النادرة لليابان، فإنها لم تكن تمتلك حينها أدوات فعالة لاستغلال هذه الورقة. لكن بعد أن رأت كيف استخدمت الولايات المتحدة نقاط الاختناق، تبنت نهجًا مشابهًا: أصدرت قانونًا لمراقبة الصادرات عام 2020، ثم لوائح إضافية عام 2024 لتقييد المواد ذات الاستخدام المزدوج، وبنت جهازًا بيروقراطيًا يحوّل هذه الموارد إلى نفوذ عملي. أدركت بكين أن القوة تكمن في التحكم في المنظومات التكنولوجية لا مجرد السلع، فكما قيّدت واشنطن تصدير معدات الرقائق، حظرت الصين تصدير معدات معالجة المعادن النادرة. هذه الضوابط تمنحها سيطرة أوسع ومعلومات دقيقة عن تدفقات التجارة، ما يتيح لها استهداف نقاط ضعف الآخرين بمهارة أكبر.

في يونيو الماضي، استغلت الصين نظام مراقبة الصادرات للضغط على أوروبا بجانب الرد على واشنطن، ما وضع شركات السيارات الألمانية مثل مرسيدس وبي إم دبليو في مأزق مشابه لنظرائها الأمريكيين بسبب تهديد توقف إمدادات المغناطيسات المتخصصة. لاحقًا، أعلن ترامب اتفاقًا مؤقتًا مع بكين لتأمين المعادن النادرة، إدراكًا لخطورة الأزمة. ورغم أن تدخل الصين قد يضر بالابتكار على المدى الطويل، فقد منحتها هذه السياسة قدرة فورية على فرض ضوابط جديدة لردع الضغوط الأمريكية. أما أوروبا، فرغم امتلاكها عناصر قوة جيواقتصادية مثل نظام سويفت ويوروكلير وشركات تكنولوجية كبرى( ASML، SAP، إريكسون)، إلا أنها تفتقر إلى الآليات المؤسسية لاستغلال هذه النفوذ بفعالية، مما يضعها تحت ضغط مزدوج من بكين وواشنطن.

رغم أن السوق الأوروبية الموحدة تُعد ثاني أكبر سوق عالميًا، إلا أن أوروبا عاجزة عن استثمار ذلك في مواجهة "الترابط المُسلّح" لافتقارها إلى منظومة مؤسساتية وتقنية مستقلة، وعدم انطلاق مشاريع مثل "يورو ستاك". تفاقم الاعتماد العسكري على الولايات المتحدة مع الغزو الروسي لأوكرانيا، كما أن واشنطن وفّرت لأوروبا المعلومات والقدرات التي أغنتها عن تطوير أدواتها الخاصة.

الانقسامات الداخلية تزيد الضعف: الشركات الأوروبية تضغط لحماية مصالحها في السوق الصينية، وتعرقل الرد على الضغوط الاقتصادية لبكين، بينما الحكومات الأوروبية تخفف من إجراءات الأمن الاقتصادي تحت تأثير المصالح التجارية.

تعاني أوروبا من فجوة هيكلية بين إدارة الاتحاد للتجارة وتنظيم السوق، واحتفاظ الدول الأعضاء بالسيطرة على الأمن القومي، ما يعرقل العمل المشترك في الأمن الاقتصادي. رغم تحذيرات فون دير لاين وإعداد استراتيجية متطورة، تفتقر المفوضية إلى أدوات تنفيذية فعالة مثل نظيراتها الأمريكية أو الصينية. ورغم تطوير "أداة مكافحة الإكراه" أو آلية لمواجهة الإكراه الاقتصادي أو التصدي له للرد على ضغوط ترامب ثم الصين، يبقى اختبارها الحقيقي فيما إذا كانت ستُفعّل أم ستظل مهملة، مما يُبقي أهداف أوروبا بلا وسائل عملية لتحقيقها.

علق الأوروبيون آمالهم على أن مجرد وجود "آلية مكافحة الإكراه" سيردع الخصوم، لكن تصميمها المثقل بالضمانات القانونية وبطء تفعيلها جعلها عديمة الجدوى تقريبًا، وأعطى الصين والولايات المتحدة ثقة بأن أوروبا لن تستخدمها. النتيجة أن بروكسل تتحدث كثيرًا عن سلاحها، بينما الآخرون مطمئنون لعدم إطلاقه. في المقابل، تواجه واشنطن مشكلات من صنع يديها؛ إذ أضعفت سياسات ترامب الثانية مؤسساتها الاقتصادية الأقوى مثل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية ومكتب الصناعة والأمن عبر تجميد التوظيف وخفض الميزانيات، رغم أنها كانت تمنح الولايات المتحدة تفوقًا عالميًا لا تملكه أوروبا أو الصين.

جاء التدهور المؤسسي في الولايات المتحدة نتيجة مباشرة للترامبية؛ إذ يعتبر ترامب القيود المؤسسية غير شرعية، ففكك آليات صنع القرار التقليدية وقلّص مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، ما أدى لغياب التنسيق واعتماد السياسة على مزاجه الشخصي ومن يتحدث إليه. النتيجة: تغليب المصلحة القصيرة على الاستراتيجية الطويلة، وتزايد اعتراض الحلفاء والمحاكم. اعتبرت محكمة التجارة الدولية أن واشنطن تجاوزت سلطاتها باستخدام قانون الطوارئ الاقتصادية لفرض رسوم على كندا والمكسيك، في سابقة مرشحة لفتح الباب أمام طعون متتالية، حتى من محافظين وليبراليين معًا.

تُضعف إدارة ترامب ركائز القوة الأمريكية عبر هجومها على المؤسسات وتوجهاتها في القطاعات الحيوية. فهي تقلل من مركزية الولايات المتحدة عالميًا، تدفع نحو العملات المشفرة وتخفف القيود على منصات مرتبطة بالتهرب من العقوبات وغسل الأموال، ما يشجع الصين وأوروبا على تطوير أنظمة دفع بديلة. كما تراجعت عن سياسات بايدن الخاصة بالطاقة المتجددة، مانحة الصين تفوقًا في تكنولوجيا الجيل القادم للطاقة. النتيجة: واشنطن عالقة بين الاعتماد على التكنولوجيا الصينية أو البقاء رهينة تقنيات قديمة.

بدلًا من أن تتعامل واشنطن مع الترابط المُسلّح كما تعاملت سابقًا مع الانتشار النووي - عبر بناء مؤسسات قوية واستراتيجيات طويلة المدى - انزلقت إلى صفقات آنية، وتفكيك لقدراتها المؤسسية، واستنزاف لمصادر قوتها التكنولوجية والاقتصادية. هذا يضعف جاذبية المنظومة الأمريكية نفسها، ويكشفها لتقديرات خاطئة وردود فعل غير متوقعة. وفي الوقت نفسه، تطور دول أخرى، وعلى رأسها الصين، بدائل أكثر جاذبية، خصوصًا في مجال الطاقة، ما يهدد بانجذاب العالم إلى فلكها بدلًا من واشنطن.

تجد الولايات المتحدة نفسها في وضع حرج في عصر الترابط المسلح، فهي قادرة على استغلال نقاط ضعف الآخرين لكنها معرضة بدورها للخطر. ويتطلب ذلك التعامل مع تعقيدات سلاسل التوريد العالمية والتكنولوجيا الناشئة وتعدد الفاعلين، ما يستدعي إعادة بناء مؤسسات بيروقراطية مرنة تمتلك خبرة عميقة، بدلًا من الانزلاق إلى السياسات العشوائية، لضمان حماية المصلحة الوطنية.

انشغلت واشنطن بكيفية استخدام أدوات الإكراه أكثر من التفكير في حدود استخدامها، ما غيّر نظرة الحلفاء إليها من شريك ملتزم بالقانون إلى قوة مهيمنة. هذا التحول يدفع الدول إلى تقليص اعتمادها على البنية الأمريكية، ويضع الشركات الأمريكية الكبرى في مواجهة ضغوط متعددة. النتيجة: هي تشرذم متزايد في الاقتصاد العالمي، مع تحذيرات من أن هذا المسار قد لا يكون الخيار الأمثل.

استغلت الولايات المتحدة الترابط كسلاح طوال 25 عامًا، مستفيدة من مؤسسات متعددة الأطراف ونظام تكنولوجي ليبرالي المظهر، رغم لجوئها للأحادية عند الحاجة. لكن مع دخول دول أخرى ساحة الترابط المسلح، لم يعد الجمع بين الهيمنة الأمريكية والقيم الليبرالية ممكنًا.

واشنطن اليوم أمام خيارين: الاستمرار في الإكراه الأحادي بما يُضعف هيمنتها، أو إعادة تنظيم علاقاتها مع قوى ليبرالية أخرى عبر الانفراج والحد من التسلح، تمهيدًا لإعادة بناء اقتصاد عالمي أكثر صلابة، والفشل في ذلك سيُهدد أمنها وازدهارها.

•أبراهام نيومان عالم سياسي أمريكي وأستاذ في كلية إدموند أ. والش للخدمة الخارجية وقسم الحكومة في جامعة جورج تاون.

•نشر المقال Foreign Affairs

Image