الحب الأول وسرقة المعرفة بين المشروعية والتجريم
"في حياة كل منّا وهمٌ كبير اسمه الحب الأول "، هذه العبارة تنسب للأديب إحسان عبدالقدوس وفيها يصف الحب الأول بالوهم الكبير، وقد يرجع نعته للحب بهذا الوصف؛ ربما لأن العواطف تكون مُتقلّبة والأحاسيس مُتباينة، وربما لعدم نضج المحب وافتقاده للاحتكام للعقل، فالمُحب يغلبُ عليه العاطفة المشبوبة، والانقياد للمشاعر.
وأجدني لا أتفق مع هذه المقولة؛ فالحب الأول ليس وهمًا، إنما هو من أجمل الحقائق في التجارب الوجودية الإنسانية، فمتى يخفق قلب الإنسان ويستشعر معنى الحب ؛ تتحوّل صورته، أيًّا كانت هذه الصورة، فإن كان طبعه فيه رقة ؛ فإنه يزداد رقة وعذوبة، وإن كان صعبًا جامدًا ؛ صار سهلًا لينًا يزخر بالعاطفة التي كان يفتقدها قبل أن تهب عليه ريح هذا الحب.
إن الحب الأول شعور صادق بريء يتسامى بمن يكابده، ويُحلّق به في عوالم المثالية والفراديس المخملية والأحلام ؛ لذلك من يغمره هذا الحب يتملّكهُ إحساس بالحماسة والعاطفة الجيّاشة، ويكون عذبًا رقيقًا ممتلىء النفس والروح والوجدان.
وقد كابدت هذا الحب، وشغفني وحوّلني إلى عاشق رقيق، فلقد تُيّمتُ بحبي الأول، ففي غرفة المكتبة الكائنة في آخررواق مدرستي الابتدائية، كان اللقاء، كان الصمت يُخيّم على المكان، تفتّح قلبي كتفتّح الزهرة عندما تمسها أشعة الشمس، يخفق قلبي ويزداد خفقانه كلما اقتربت منها، تنتشي روحي، وتفيض نفسي رقة وطهرًا وشفافية كلما دنوت منها، إنها تطل عليّ كملاك من ملائكة الفردوس، أبصر المكان الآسر الفاتن تغمره الألوان الزاهية، وتتراقص فيه نغمات الوجود، وشدو العصافير يتهادى من الشرفة المقابلة، هذه الشرفة المغطاة بالورود ومن ورائها يطل النخيل الباسق، والذي تتماوج سعفاته وتتراقص عندما يغازلها نور الشمس المنسرب من بينها لينفذ من الشرفة فيهبط وميضه فيملأ المكان بالحب والسلام والطمأنينة.
في هذا الجو المليء بالبهجة والإشراق كان حبي الأول، وهو اطلاعي على رواية " إيفان سرجيفتش تورجنيف " والموسومة " بآسيا وجداول الربيع " كان هذا هو حبي الأول، وقعت في غرام هذه الرواية، ونبض لها قلبي، وأحيت نفسي، وحلّقت بي في سماوات الخيال حيث الصباحات المشرقة، والشموس المنيرة الدافئة، والأقمار المضيئة، وأماسي الربيع والمشاعر الدافئة الرقيقة المنسابة كالخيال والأحلام.
كانت المكتبة هي المحراب المقدس التي أشعرفيها بالهدوء والطمأنينة والسلام، وفيها اتصلت وامتزجت بمعشوقتي الأولى، الرواية التي جعلتي أبلغ مرتبة العشق في القراءة، ولم يكن حبي الأول مجرد علاقة غرامية ضحلة أو عابرة بل هو افتتان وعشق ما أن أتذكره حتى يخشع وجداني لسحره وجماله.
ولقد شغف حب الكتاب الأول أحدهم كما شغفني، فنقل عنه الأديب الإسباني " كارلوس رويث زافون " صاحب سلسلة روايات " مقبرة الكتب المنسية " هذه العبارة " لا شيء قادر على التأثير في القارىء أكثر من الكتاب الأول الذي يلمس قلبه حقًا. إذ أن صدى الكلمات التي نظن إننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة ويُشيّد في ذاكرتنا منزلًا سنعود إليه عاجلًا أم آجلًا ".
كان هذا حبي الأول، ومن أجله سرقت، لكن هل كانت سرقتي مشروعة؟!
كنت دائم الوقوف أمام الكتب التي يضعها الباعة في سوق الكتب ويضعونها على مناضدهم الصغيرة أمام أكشاكهم الصغيرة، وكنت أختلس القراءة في بعضها، وأتصفح البعض الآخر، وأذكر أني اطلعت على فصل كامل من كتاب " الإنسان هذا المجهول " وكان يتناول مفهوم الزمن الداخلي للإنسان وعرفت وقتئذ أن هذا الزمن الذي يتحدث عنه الكتاب يختلف عن الزمن العادي، وكنت مشدوهًا وقتها ومنبهرًا بما أقرأه، فلأول مرة كنت أعرف أن هناك زمنًا داخليًا يتعلق بالتجربة الذاتية للإنسان وأنه يتأثر بالحالة النفسية والعاطفية وأنه يتغيّر ويتمدد ويتقلّص حسب مشاعر الفرد وظروفه، وهو يختلف عن الزمن العادي والمحدد والذي يتميز بالثبات.
كان الكتاب دعوة لإعادة بناء الإنسان عبر الارتقاء به صحيًا وتربويًا ودينيًا، وحثه على حب الفنون والتأمل.
اختلست المعلومة من هذا الكتاب، وكنت أختلس من غيره، وكانت السعادة تنتابني وأنا أفعل ذلك، فلعدم استطاعتي شراء الكتاب وقتها؛ كنت أعمد إلى اختلاس المعرفة والتي كانت تمنحني رؤيا جديدة، ربما كانت قليلة، لكنها كانت كثيفة وعظيمة.
لست أنا السارق الوحيد، فقد سرق الكثير من قبلي، ويؤكد على ذلك الناقد الإنجليزي " ويليم هازلت " في قوله " سرقة المعرفة هي السرقة المشروعة الوحيدة في حياة هذا المجتمع "
وهو في عبارته هذه يصف حال سرّاق المعرفة الذين يقفون أمام الكتب المعروضة، وفي المكتبات ونواصي البيع والأكشاك والمصاطب يسرقون المعرفة ويستمتعون بما يفعلون.
إن الحب الأول وسرقة المعرفة من التجارب الإنسانية الهامسة الآسرة، المليئة بالجمال والعوالم الغنية الخصبة، وإن كنت أرى أن هذه التجارب في انحسار وردّة في عصر التكنولوجيا والكتاب الالكتروني؛ لكني ما زلت أراهن على الإنسان الذي وبالرغم ما يواجهه من تحدّيات وعوائق؛ سيظل هو الكائن الوحيد الذي يتوق إلى الكمال الأخلاقي والروحي.
