من يؤثّر على الآخر.. الكاتب أم المكان؟
جدلية التأثير والتأثر في الرواية العربية -
دمشق : بسام جميدة -
كثيرة هي الأعمال الأدبية التي تجسد روعة المكان، وأهميته وتأثيره في نفس الكاتب، وفي حياته، لتمتد إلى سير حكاياته في الكثير من أعماله الأدبية، سواء كانت في القصة أو الرواية وحتى الشعر.
الأماكن ليست مجرد مدن، وأحياء، وأزقة قديمة تحمل عبق الماضي، هي تاريخ، مملوء بالأحداث، وبالقضايا الإنسانية الكثيرة التي تزرع في النفس، لتنبت، وتعيش أجيالا بعد أجيال..
أدباء كثر احتفوا بالمكان، كما احتفى هو بهم ذات مرور أو إقامة به؛ وكثير منهم شغلهم السرد القصصي للأحداث المتلاحقة في أعمالهم فلم يعيروا أهمية للمكان الذي يشغل حيزا من الحدث.
هناك من أثّر به المكان، سواء كان عابرا له، والتقت عيناه بعيني سمراء أو شقراء، ولمعت بينهما شرارة الشغف؛ وهناك من كتب عن المكان الذي عاش به، وكأنه مقدس بالنسبة له، وأسقط عليه الوقائع العديدة، واستلهم منه ما يريد أن يكتب.
المكان لم يكن مقتصرا على المدن العريقة، ولا على الأحياء الشهيرة، بل هناك من كتب وخلد مكانه القابع في دهاليز النسيان، فنفض عنه الغبار، وأظهر جمالياته، وعراقته، وماقد مه سواء كان سلبيا أو إيجابيا.
أماكن أوصلت بعض الأدباء للشهرة من خلال الكتابة عنها؛ وأماكن أخرى مهملة، تناولها الأدباء، وأشهروها للعلن، وباتت معلما واضحا في ذهن القارئ.
عوض مبارك: المكان يترك أثره فينا
يقول الروائي السوداني عوض مبارك عن أثر المكان في كتاباته: «ما من مكان نمر به إلا وترك أثرا ما في حياتنا، وبطبيعة الحال يتفاوت هذا الأثر من شخص لآخر، فالأمر هنا يعتمد على ميولنا وأمانينا، أحلامنا ورغباتنا، ولا يهم كثيرا طول مدة إقامتنا أو قصرها، فقد نمكث طويلا دون حدث أو فعل يرسخ في الوجدان فيختمر فيتحول إلى مادة صالحة للكاتبة، وقد نمكث لمدة قصيرة جدا ولكنها حبلى بالكثير المثير!
عن نفسي اكتشفت أن وجودي خارج الوطن جعلني أراه بشكل أكثر وضوحا، وأبصرت بعمق ما كنت أراه معتما عندما كنت بالداخل، الأمر الذي مكنني من كتابة ثلاث روايات كانت كل أحداثها داخل أرض الوطن، ثم تبعتها روايتا «سفر في جسد امرأة» التي دارت أحداثها بين سوريا ولبنان، و«سقوط» التي دارت أحداثها في أمريكا، ولولا مروري ومكوثي لفترات متفاوتة في البلدان الثلاثة الأخيرة لما تمكنت من كتابة الروايتين المذكورتين، وأما روايتي الأخيرة «نواميس ملوك الشمس» والصادرة أيضا كسابقتيها عن دار الفارابي فهي من محض خيالي، ويمكنني القول بأنها حكاية كل الأمكنة كما هي حكاية كل الأزمنة، على اعتبار أنها مستوحاة من تاريخ البشرية المتشابك بكل ما حواه من غرائب وعجائب ومفارقات وحكايا تفوق خيال الإنسان!»
الكاتب المصري أحمد رجب شلتوت: المكان الروائي شخصية موضوعية، وبُعد اجتماعي
لا رواية بلا مكان، .. فإذا كان المكان يمثل الموضع الذي تجري فيه أحداث الرواية فلابد إذن من وجوده ولكن عنصر المكان لم يكن فعالًا أو حاسمًا في التخييل الروائي، وتعتبر رواية «روبنسون كروزو» للروائي «دانييل دي فو» هي أول عمل أدبي منح دور البطولة للمكان، فلم يعد مجرد إطار تدور فيه الأحداث. وهو الدور الذي ازداد تدريجيا خاصة مع تأثيرات موجة الرواية الجديدة في فرنسا التي عملت على تحطيم الزمن كمقياس لمغزى الحياة، وأحلوا محله المكان.
وكان السرد العربي القديم أسبق من الرواية في الاحتفاء بالمكان، والمدهش أنّ السرد العربي القديم احتفى كثيرًا بالمكان، ولعل كتاب ألف ليلة وليلة خير دليل على ذلك، لكن الرواية العربية لم تولِ المكان الأهمية التي تليق به (خاصة في مرحلة ما قبل نجيب محفوظ) لكن مع جيل الستينات (والأجيال التي تلت) أدرك الروائيون قيمة المكان، وهنا نشير على سبيل المثال إلى علاقة حنا مينا باللاذقية، وإبراهيم الكوني بصحراء الحمادة بليبيا، وعبد الرحمن منيف بـ «حران» و»مدن الملح»، ومحمد جبريل ومدينة الاسكندرية، وغيرهم. فالمكان الروائي لم يعد مجرد وعاء حاو للأحداث والشخصيات بل هو شخصية موضوعية، كما أنه بُعد اجتماعي إذ يتأثر بحياة من حوله كما يؤثر في حياتهم. وبحسب تعبير جون برين «الناس هم الأماكن، والأماكن هي الناس». وهنا نؤكد على شيء بديهي وهو أنّ القاهرة في روايات نجيب محفوظ ليست هي القاهرة الحقيقية، ونفس الشيء بالنسبة للندن عند «جون جولز وروذي» أو باريس عند «بلزاك» و«زولا»، فالمدينة الروائية مدينة خيالية حتى وإنْ استطاع القارئ أن يتحقق من وجودها الجغرافي، كما أن لها وظيفة خاصة في بناء عالم الرواية إذ تصبح حاملة لمدلولات مختلفة وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعناصر الأخرى المكونة للرواية، وتسقط عليها وتكتسب منها عمقها.
والمكان عندي لا يوصف لذاته، ولكن أتعامل معه باعتباره جزءا عضويا في الرواية، خيوطا في نسيجها، يضيف إلى دلالاتها وإيحاءاتها وصورتها الكلية». كما في روايتي «حالة شجن» الفائزة بجائزة إحسان عبد القدوس، ففيها اعتمدت على تقنية الرحلة أو التنقل بين الأماكن، فلم يرتبط ببنية الرواية فحسب، بل كان المكان فاعلا في كل أحداثها، مؤثرا في الشخصيات وفي الأحداث.
شهيد شهيد: هل المكان كائن حي؟
يتساءل الروائي العراقي شهيد شهيد قائلا: «هل المكان كائن حي ..؟ يبدو السؤال غريبا نوعا ما لكونه يتعلق بمادة تتسم بالسكونية، ولكن هذا السؤال لا يأخذ تلك الصورة الغرائبية في وعي الكاتب، والسبب في ذلك أن وعي الكاتب يجنح نحو الفانتازيا في رؤياه للوجود، وهذا ما ينعكس على الأساليب التي يتعامل بها مع الواقع والتي تنعكس في معالجته التعبيرية التي يضعها بين يدي قارئه .
ولكون مفهوم الكتابة لا يتوافق مع السكونية فان وظيفة الكاتب تتوجه نحو بث الحياة حتى في عناصر الحياة الساكنة والتي نجدها تتميز بالثبات حين نعاينها في صورتها الواقعية، هنا يمكننا القول إن الكاتب يمكنه أن يحول المكان إلى كائن حي، هنا تكون الأدوار الوظيفية تبادلية بين الكاتب والمكان، وفق تسلسل أفقي ترسمه خطوات الإنتاج التعبيري، تبدأ الخطوة الأولى بفاعلية المكان في ذهن الكاتب وذلك يستدعي وجود المكان كعنصر يمتلك الحيوية الكافية لتحفيز شهوة الكتابة لدى الكاتب، ذلك الإغواء تنبثق منه الخطوة الثانية حيث تتحرك عناصر الأمكنة في وعي الكاتب والذي يتولى مهمة نقل تلك الحركة عبر ما يمتلكه من أدوات تعبيرية الى ذهن القارئ، هنا ينقل الكاتب العلاقة التي كوّنها مع المكان الى طرف آخر هو المتلقي والذي ستكون له علاقته الخاصة مع ذلك المكان وفق تصورات تستند الى ما وفره له الكاتب من قيمة وجودية للمكان، هذه العملية بالمجمل ربما تحول صيغة التفاعل من «قراءة» الى صيغة «مشاهدة» فكان القارئ يتنقل بين أروقة المكان ليعايش ملامح بناياته وأزقته وحواريه، وهذا ما يجعل للمكان أهمية كبيرة كعنصر ذي فاعلية في عملية العرض الموضوعي في الكتابة وخاصة السردية منها.
عبد السلام إبراهيم: عنصر رئيسي
يتحدث الكاتب المصري عبد السلام إبراهيم عن المكان قائلا: «المكان عنصر رئيس في الكتابة الروائية وعليه تقوم الأحداث وتتشابك وربما يتقابل معه عنصر آخر في الرواية لا يقل أهمية وهو الزمن، ومن المؤكد أن لدى المكان سطوة على الكاتب ولا يمكنه إغفال تأثيره ويساهم بقدر كبير في تشكيل وبناء اللغة، ومن المكان تولد الشخصيات وتُبنى العلاقات فيما بينها وتتحدد مصائرها، وربما يتقاطع الزمان والمكان معا فيكون الزمكان أي أنهما يمتزجان معا. في بعض الأحيان يكون المكان بطلاً يحتوي على حيز كبير تأتي بعده بقية العناصر وربما تقوم على بنيانه أو أنها تستمد وجودها منه، في روايتي «قادش الحرب والسلام» كان المكان مساويا للزمن من خلال قدرته على تشكيل الشخصيات والبناء اللغوي المصاحب لهما، أما في روايتي «الطواب الأكبر» يطل المكان بين الحين والآخر ليعلن عن وجوده ككيان قائم بذاته وإن اتسقت معه بقية العناصر كالزمن الذي يستمد نكته في بعض الأوقات منه ليصبح ذا صيغة متغيرة، ولعب دوراً مهماً في الانتقال عبر الزمن ليضفي على الرواية الجو الأسطوري الذي تحدده تلك الانتقالات، واسْتقت بعض الشخصيات كيانها وملامحها منه. كان للمكان أيضاً دور مهم في روايتي «عرش الديناري» التي كان فيها المكان العنصر الفاعل في تسليط الضوء على بعض الشخصيات التي تدين كل منها بدين وتستمد منه ملامحها، وظل المكان هو العنصر الوحيد الذي لم يتزعزع كبقية العناصر كالزمن والشخصيات التي تلاشت فيما بعد لكنه ظل كما هو محور الرواية حتى نهايتها.
وتأتي رواية «جماعة الرب» لتقوم بتذويب فكرة المكان وضرورة التحامه مع الزمن وانصهاره في الشخصيات فلم يكن له دور رئيس في تحريك الأحداث ولكنه صبغ بقية العناصر بقيمته التي يشعر بها القارئ في كل فصل، وإن كان في بعض الأحيان يعلن عن نفسه كرحم ولدت منه بقية العناصر، وكانت فكرة تذويب المكان نابعة من ضرورة تغييبه وتحييده بسبب الخطاب الروائي المغاير للروايات السابقة، ووجدت أن ضرورة تغييب المكان عنصر مهم لا يقل أهمية عن إظهار سطوته، لأن الشخصيات تتحرك في مكان يبدو أنه اللامكان الذي يخفض صهوته كي تعتليه. وفي ظني أن اللغة تستقي مكوناتها من مفردات وتراكيب ومجاز من المكان لذلك فإنني أعتبر أن المكان هو أول ما يبني عليه الروائي روايته وألا يغفل الاستعانة بمكان يعرفه تماما ويعرف مفرداته ويستطيع العزف على أوتاره كي تصبح روايته مهمة يبحث عنها القارئ».
حسين عبد الكريم: المكان أب وأم
يصف الأديب السوري حسين عبد الكريم المكان في العمل الأدبي بقوله: «المكان أب وأم.. وحصانة وجدانية رفيعة المستوى ويؤثر و يعطي الكتابة طفولتها ويصحبها كالحنين الذي يرافق الأشواق ويعاني من اجلها ويعاون القناعات... المكان أنا حسين عبدالكريم.. وطن في أعالي الحواس ووسطها وعمقها.. بين قريتي والبحر تولد كل حين أصابعي ويولد الحبر والحبر والكنايات وتولد المخلية.. مكان الحب هو مكان الكتابة وهو اللغة الخاصة التي لا يمكن الفلات منها. أقدار الحياة تتواصل مع أقدار الزمان والمكان فتكون القصة - العشق أو القصة - الوطن أو القصيدة.. حسين عبد الكريم عاشق جبلي يتعامل بحميمية طازجة مع الأحلام الطفلة ويحمل على كتفي عيشه قصائد العشاق وقصص العاشقات. في الأمكنة الأولى حيث الحبيبة أغنية جبلية يلحنها البحر في هذه الأمكنة يولد حب طفل وحلم طفل والحياة الحبوبة المقدر عليها.. في دمشق يولد الحلم يافعا ويولد الحب شهوانيا وتولد الأخيلة مشاكسة.. لا يوجد مكان يقبل على نفسه إعادة حلم مكان سابق كما هو...بالأحلام تولد الأمكنة وتعود الأمكنة مع الوقت تربي الأحلام وتحتضنها فتصير الكتابة تخص أمكنة تنام في غرف الوجدان وأعالي الحواس الحبيبة تترك متسعا من جنون الرغبات المتحفزة للعشق ومشاغبات اللهفة».
أشرف توفيق: الرواية سحر الأماكن
يحكي الروائي المصري أشرف توفيق قصته مع الأماكن فيقول: «أقف في آخر طابور المعجبين بفرنسا، سبقني توفيق الحكيم وهو يراها وطن الحب والمسرح في روايته «عصفور من الشرق»، وبعد طه حسين الذي ذكرها ببلاد الجن والملائكة في روايته «أديب» فقد رأيتها مملكة الجنة وكتبت ذلك في روايتي «مملكة الجنة» .
ولا اعرف كيف صممت وأنا في رحلة عمل بانجلترا، أن اذهب إليها عبر المانش في رحلة بحرية رست بي عند مدينة «كان» وقت مهرجانها للسينما، وكيف شملني عرب من تونس بالترحاب هناك وبددوا وحدتي، وكانت عربيتنا تدوي في سماء مدينة كان.
وبقيت فيها من وقت الغروب حتى الصباح. وبعد 10 سنوات ألحت عليّ ذاكرة «كان» وبقيت فرنسا هوايا في القراءة وجمع المعلومات لينتهي سحر الأماكن بروايتي «مملكة الجنة» رواية تدور أحداثها في فرنسا وأبطالها عرب من تونس والمغرب والجزائر ومصر، فالمسلمون هناك 8 ملايين نسمة، وفرنسا كلها80 مليونا. والمسلمون هوس فرنسا، وفرنسا تريد إسلام فرنسي؟ فتمنع النقاب وتقيد على الحجاب، والمسلمون يريدون حق مواطنةٍ غير منقوص بأرض اختاروها وطنا! وفى الرواية سحر الأماكن سحرت في 12 ساعة ولا أزال ؟!
عناوين كثيرة
كثيرة هي العناوين الأدبية التي تناولت المكان كعتبة رئيسية في العمل واحتفت به، وأبرزته، وتأثر بها الكاتب، بدءا من ملحمة جلجامش وغيرها من كتب الأساطير مرورا بأماكن ألف ليلة وليلة، دون أن نغفل وليمة لأعشاب البحر، و لا روايات حنا مينا ولا «أولاد حارتنا» وغيرها الكثير. المكان، قد يكون كوخا على شاطئ بعيد، أومنفى، أو ملاعب طفولة، ومقصد عاشق تحت أنوار الطريق، وربما كان أربعة جدران في سجن مظلم، وقد يكون قصرا فارها مملوءا بالشقاء، وجسرا للتنهدات، ونهرا في مدينة كـ«فينيسا»، أو جدولا في سهل قرية، أو على أطلال إسبانيا حيث عبرات الخاسرين. ومهما يكن فقد شكل المكان دورا كبيرا في عمل كل كاتب، حتى لو تغافل عنه بعض الشيء لصالح أحد أعمدة الرواية، فإنه لا شك سيلج تلك الأماكن مهما حاول الابتعاد عنها، لأنها مؤثرة في النفس.
وقد حاول الناقد وليد شاكر نعاس في كتابه المكان والزمان في النص الأدبي (الجماليات والرؤيا) أن يضع بعض المقاربات حول هذا الموضوع من خلال استعراضه لرواية ( وليمة لأعشاب البحر) للكاتب حيدر حيدر أن يظهر مدى تميزها وتجسيدها المكان كمنفى وظهرت معظم شخوصها تحمل أفكارا متمردة وبنيت مفاهيمها ودلالاتها على مدى البؤرة التي من خلالها سلط الروائي الضوء على مجمل المكان في هذا العمل . كما تناول القرآن الكريم،المكانَ في سورة يوسف عليه السلام وفي ملحمة جلجامش وفي قصص جليل القيسي، ورواية سابع أيام الخلق لعبد الخالق الركابي، كما يقدم المؤلف توضيحا لمفهوم المكان، سواء كان مفهوما لغويا أو عندما يعده ظاهرة في المفهوم والدلالة والمعنى، ويرى أن اختلاف الآراء والتوجهات وتعدد زوايا النظر لا تؤثر في تنحي مفهوم أن البعد الفلسفي ظاهرة للمكان سيسهم بصيغته الإشكالية على المستوى الفلسفي أولا ثم الأدبي ثانيا ويستطرد المؤلف في توضيح المفهوم الفلسفي للمكان تاريخيا وأدبيا وأشكال المكان في الأدب.
