مرفأ قراءة ... ذكريات "سور الأزبكية" العظيم!

القاهرة القديمة الأزبكي[/caption]
إيهاب الملاح
(1)
ثمة أماكن ومساحات بعينها تشغل فضاءات حميمة في الذاكرة والوجدان؛ خاصة إذا ارتبطت بتكوينات إنسانية وتاريخية، وصارت جزءًا من الذاكرة الثقافية لكل من مر بها أو من خلالها.
في واحدةٍ من هذه البقاع التاريخية العريقة، بالقاهرة المحروسة، استقر اختيار نابليون بونابرت (وقواده من بعده) على واحد من بيوته الفخمة ليكون استراحة هادئة لأيامه المشحونة التي قضاها في مصر، في لحظة الاحتكاك العظيم بين الشرق والغرب في العصر الحديث، وبها أيضا عاش مؤسس مصر الحديثة محمد علي الكبير، وبها الحديقة التي تغنى بها كبار الشعراء في مصر والعالم العربي، وبها دار الأوبرا الخديوية التي لم يشهد الشرق مثيلا لها حتى أتى عليها حريق غادر (بناها الخديوي إسماعيل عام 1869 واحترقت في 28 أكتوبر العام 1971 بعد أن ظلت منارة ثقافية لمدة قرن وعامين)..
وفي ميدانها الكبير، خطب الزعيم سعد زغلول في جموع الأمة المصرية، ثم صارت واحدة من تمركزات وزارة الأشغال والإدارة الحكومية المصرية؛ لتكون مقرا لمصلحة البريد، ونادي السلاح المصري، والمطافئ العمومية، و"بوليس النجدة".. إنها الأزبكية الغنّاء ومعالمها الغرَّاء!
في محيط مساحة تقدر بحوالي عشرة كيلومترات من شرق القاهرة إلى ضفاف النيل، تقع القاهرة التاريخية الألفية؛ في القلب منها؛ الأزهر وباب الخلق، ودرب الجماميز، وعابدين، والأزبكية، والظاهر، والفجالة، تستطيع أن تقول بثقة: إن ثقافة العالم العربي والإِسلامي في القرنين الماضي قد خرجت من هذه الكيلومترات العشرة في وسط القاهرة، مضافًا إليها تلك الرقعة المحدودة في رملة بولاق التي سميت (مطبعة بولاق).
كان ميدان الأوبرا الحالي في وسط القاهرة الخديوية، مقرا لدار الأوبرا المصرية التي أسسها الخديوي إسماعيل. هدمت هذه الأوبرا الفخيمة وحل محلها جراج قبيح متعدد الطوابق. كانت هذه المساحة الهائلة من الأرض يطلق عليها حتى مجيء الحملة الفرنسية بركة الأزبكية التي كانت تستمد مياهها آنذاك من ترعة شهيرة "خليج المغربي"، أو "الخليج الناصري" وكان آخر اسم لها قبل ردمها "خليج الطوابة".
(2)

نجيب محفوظ في سور الأزبكية[/caption]
لما يزيد على القرن، كانت مكتبات سور الأزبكية، في قلب القاهرة الخديوية قبلة كل المضروبين بالمعرفة والمشتغلين بالفكر أو الثقافة؛ كانت، وما زالت هي الكنز الأكبر الذي مهما مرت عليه السنون والأيام محتفظا بجاذبيته وقيمته وأسراره أيضًا!
وما زالت مكتبات السور، رغم توالي الأيام والمحن، هي قبلة كل باحث ومشتغل بالمعرفة والقراءة والكتاب! كانت وما زالت هي نقطة التقاء المثقفين، على اختلاف توجهاتهم وتباين أفكارهم، ليس في مصر وحدها بل في جميع أنحاء العالم العربي والشرق الأوسط.
من قلب ميدان عابدين التاريخي، أقطع سيرا على الأقدام المسافة من أول شارع الجمهورية حتى ميدان الأوبرا وصولا إلى حديقة الأزبكية التي يتزين سورها بأكشاك بيع الكتب التي ظلَّت لسنواتٍ طويلة زادًا للمعرفة، وكانت تبيع الكتب القديمة، أو المستعملة، أو التي تخلّص منها الورثة الذين قسَت قلوبهم فتخلصوا من كتب ذويهم ببيعها إلى أصحاب أكشاك الكتب التي ظلت تحيط بسور الأزبكية من الجهة التي تواجه الأوبرا القديمة، قبل احتراقها في سبعينيات القرن الماضي.
هناك كانت الجنة لمن هم مثلي، وبحسب ما تسمح به ميزانياتهم المتواضعة. أعرف أصحاب المكتبات واحدًا واحدًا، وأعرف من أيهم أحصل على هذا الكتاب أو تلك الرواية أو هذه المجلة. بين جنبات السور، أدركت أن متعة البحث والتنقيب تساوي عمرًا بأكمله صحيح أنك لن تنجو على الأرجح من الإصابة بمتلازمات البحث بين أطنان الكتب القديمة (حساسية الأنف، والصدر، والسعال المزمن.. إلخ) فإنك أيضا لن تخرج خالي الوفاض أبدا!
أهم وأنفس ما في مكتبتي الشخصية من بين آلاف الكتب التي اقتنيتها ما حصلت عليه من سور الأزبكية؛ كل السلاسل الذهبية الزاهية في ستينيات القرن الماضي حصلت على أعدادها الكاملة منها؛ المكتبة الثقافية، أعلام العرب، كتابي، كتاب الهلال، اقرأ، روايات عالمية، روائع المسرح العالمي، فضلا على نوادر المجلات والكتب والمجموعات الكبرى؛ دائرة المعارف الإسلامية، الأعداد الكاملة لمجلات (الرسالة)، و(الثقافة)، و(الكتاب)، و(الكاتب المصري)... إلخ وما أكثر الروائع والنوادر والكنوز التي ظفرت بها من سور الأزبكية العظيم!
(3)

نجيب محفوظ صورة نادرة ألوان[/caption]
كنت مثل باقي الأصدقاء في الشريحة الاجتماعية المتوسطة التي أنتمي إليها أفضل شراء الكتب التي تتناسب مع ميزانيتي الضئيلة وقتها، أشتري الكتب "النفيسة" القديمة من السور، كانت الميزانية محدودة. وكانت مصادر اقتناء الكتب، آنذاك، متعددة بداية من سور الأزبكية (وهو المصدر الأهم والرئيسي)، حيث الكتب القديمة المهمة التي لم يعد طبعها، مرورًا بالمكتبات المختلفة، وانتهاء بمعرض الكتاب، حيث توجد الكتب المترجمة في الدول العربية.
أذكر جيدًا المرات التي ظفرت فيها بأجزاء من كتب ثمينة غاية في الندرة كان الحصول عليها وقتذاك يعني الوقوع على كنز لا يقدر بمال؛ على سبيل المثال فقد اقتنيت الجزء الأول من الكتاب النادر "أمراء البيان" للعلامة محمد كرد علي من مكتبات سور الأزبكية، في أبريل من العام 1995، وبعدها بعامين أو ثلاثة حصلت على جزئه الثاني؛ ليكتمل الكتاب في واحدٍ من طبعاته النادرة الممتازة عن لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة.
وقد حصلتُ من مكتبات سور الأزبكية تقريبًا على معظم الكتب التي تُرجمت عن تيارات النقد الحديث والمعاصر خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين. اشتريتُ كتبًا رائعة؛ منها على سبيل المثال الكتاب الذي ترجمه إحسان عباس ومحمد يوسف نجم "النقد الأدبي ومدارسه الحديثة" لستانلي هايمن، وكتاب "نظريات معاصرة" لجابر عصفور، و"النظرية الأدبية المعاصرة" لرامان سلدن الذي ترجمه عصفور أيضًا، و"مناهج النقد المعاصر" لصلاح فضل، و"معرفة الآخر مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة".. ورغم مرور ما يزيد على ربع القرن على اقتنائي هذه الكتب، وقراءة عشرات وعشرات غيرها؛ فإن هذه المجموعة، بالتحديد، ما زالت عندي من أفضل ما قرأت في تيارات النقد الحداثي، وما بعده حتى الآن.
هذا عدا الأعداد الرائعة التي اقتنيتها من مجلة (فصول) العظيمة ومجلة (الكرمل) وقت رئاسة محمود درويش لها.. يا لها من ذكريات!
(4)

مكتبات الأزبكية[/caption]
إذا حاولت أن تقوم بسياحة عشوائية في "سيرة" أو "مذكرات" أي مثقف مصري أو عربي كبير ستجد ذكرًا عارما ووارفا وأصيلا لسور الأزبكية، ومكتباتها وذكرياتها، منذ الثلاثينيات وحتى وقتنا هذا؛ لكن عقود منتصف القرن بالتحديد (منذ الثلاثينيات وحتى نهاية القرن العشرين) هي التي شهدت زخما ثقافيا كبيرا، وكانت القاهرة، وفي القلب منها سور الأزبكية، قبلة الدارسين والباحثين والمثقفين من جميع أرجاء العالم العربي.
المثقف البحريني الكبير محمد جابر الأنصاري له ذكريات مع سور الأزبكية (راجع شهادته السيرية في مرافئ الذاكرة)، والناقد المغربي الكبير محمد برادة له حكايات وقصص مع سور الأزبكية (راجع روايته المهمة "مثل صيف لن يتكرر")؛ أما عميد الرواية العربية، ومؤصلها، أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ فقد شغلت مكتبات سور الأزبكية حيزا عزيزا من ذكرياته التي سجلها في أكثر من مناسبة صوتا وصورة وكتابة!
وإذا راجعتَ سير ومذكرات كتّاب جيل الستينيات؛ جمال الغيطاني، وبهاء طاهر، وصنع الله إبراهيم، إبراهيم أصلان، خيري شلبي، محمد البساطي.. فإنك ستستطيع بكل ثقة الحكم بأن لولا سور الأزبكية وأياديها البيضاء على الثقافة والمثقفين والمبدعين ما كان لواحد منهم أن يصل إلى ما وصل إليه من مجد وشهرة وتحقق.
