1022382
1022382
المنوعات

عقول العرب المهاجرة

25 مايو 2017
25 مايو 2017

أنور الجمعاوي -

تحتفل الدول المتقدمة بالكفاءات الصاعدة، وتجد في متابعة الموهوبين ورعايتهم، فتصطفي التلاميذ والطلبة المجيدين، وتوفر لهم مراكز رعاية خاصة تستكشف قدراتهم الخلاقة، وتستثمر طاقاتهم الإبداعية، وتوجههم الوجهة التي يجدون فيها أنفسهم، ويطورون فيها إمكاناتهم الابتكارية. فتصبح صناعة الذكاء وعملية صقل الموهبة من روافد كسب معركة التقدم، والفعل في الحضارة الكونية؛ فالتباري اليوم بين الأمم حاصل في مستوى إنتاج الأفكار، وإبداع العقول، وتوسيع مجالات مجتمع المعرفة. وتحديث مختلف قطاعات الحياة العمرانية والاقتصادية، وتطوير مستويات التنمية، وتحسين الأداء الخدماتي والمنْجز التربوي.

لا يمكن للانتماء إلى عصر التقانة وزمن التنافذ الثقافي أن يتحقق في ظل غياب استراتيجية عربية واعية بضرورة استنبات المعرفة ذاتيا، ورعاية الموهوبين واحتضان المبدعين وتشجيعهم.

والمشهود منذ عقود في البلاد العربية أن عددا مهما من الدول في المنطقة ما فتئت تعتبر أقطارا طاردة للكفاءات، غير معنية بضرورة رعاية أجيال من العباقرة الشباب الذين أنجبتهم المؤسسة التعليمية العربية، وهو ما أسهم في استنزاف الطاقة الذهنية الذكية لدى الأمة نتيجة هجرة الأدمغة العربية الخلاقة واتجاهها نحو الغرب بحثا عن فضاء حضاري أفضل، يوفر مستلزمات الإبداع ومقتضيات العيش الكريم للمبدع.

وجاء في تقارير صادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وجامعة الدول العربية أن أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي يعملون في الدول المتقدمة من بينهم 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا المشتغلين في أمريكا وأوروبا. وتشير الدراسات إلى أن 54 % من الطلاب العرب الذين يهاجرون لمواصلة دراساتهم الجامعية في الغرب يرفضون العودة إلى بلدانهم الأصلية. وبحسب إحصائية أنجزها مركز الخليج للدراسات (سنة 2004) فإن عدد الأساتذة الجامعيين العرب المهاجرين يقدر بـ284 ألفا في مجال العلوم الهندسية والتطبيقية، و179 ألفا في مجال العلوم الحيوية والزراعية، و152 ألفا في مجال العلوم التجريبية والعلوم الصحيحة، و136 ألفا في مجال العلوم الإدارية. وبالعودة إلى مؤشر هجرة الأدمغة الصادر عن البنك الدولي سنة 2008، فإن الدول العربية الثماني التي تتصدر طليعة البلدان الطاردة للعقول المبدعة هي مصر وسوريا ولبنان والعراق والأردن وتونس والمغرب والجزائر. ويسهم الوطن العربي بنحو 31% من مجموع الكفاءات والعقول التي تهاجر من البلدان النامية نحو الأقطار الغربية. كما أن نحو 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء العرب يفضلون الهجرة على البقاء في بلدان المنشأ العربية، وتستقطب الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكندا نسبة 75% من العقول العربية الإبداعية المهاجرة. لذلك لا غرابة أن تفيد بعض الإحصائيات أن 12% من بلدان العالم تستحوذ على 95% من العلماء. وهو ما يؤدي إلى مركزة القدرات المهارية، والمعرفة النظرية والتطبيقية في دول الشمال، ويزيد ذلك من استنزاف دول الجنوب وتعطيل فرص انتقالها الحضاري وتطورها الاقتصادي. وفي هذا السياق يشير تقرير صادر عن أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر في شهر (يوليو) 2015 إلى أن أكثر من 450 ألف مصري من أصحاب الشهادات العليا اتجهوا قبلة الغرب خلال الخمسين سنة المنقضية. وأصبح ستمائة من بين هؤلاء المبدعين المصريين المهاجرين من أبرز العلماء المتألقين في الغرب في اختصاصات دقيقة ونادرة من قبيل علم الفضاء، والنانو تكنولوجيا، وعلوم البحار، والهندسة المعمارية الصديقة للبيئة... والحال أن بلدهم الأصلي أحوج إليهم، وأجدر بالاستفادة من خبراتهم الفنية وجهودهم العلمية المميزة.

ويكلف العقل العربي المهاجر بلده عشرات آلاف الدولارات أثناء رحلة تعلمه حتى إذا أمسك بناصية المعرفة، واهتدى إلى أبواب العلم، وارتقى من مقام المتعلم إلى درجة المعلم، ومن مرتبة الباحث إلى مستوى الخبير/‏‏ المفكر ترك وطنه، واتخذ الغرب غايته ومستقره، وأفاد الآخرين من قدراته الإبداعية ومنجزاته الابتكارية، ما يؤدي إلى عدم توطين المعرفة في السياق الوطني والقومي العربي، وتأجيل مرحلة الإقلاع التنموي الشامل. فيبقى الجهد العربي العلمي تنظيرا وتطبيقا جهدا ملحقا بالغير خادما دول الشمال، وهو ما يزيد في الهوة المعرفية والفجوة الحضارية بين الأنا والآخر، فتظل الدول العربية النامية دولا ذات اقتصاد هش، وتقانة مستوردة، وثقافة هجينة، ويحال بينها وبين الانتقال من موقع المستهلك إلى موقع المنتج في دورة الفكر الإنساني الخلاق.

تهميش المبدعين

والواقع أن الباحث في أسباب هجرة العقول العربية يتبين أنها تتمثل أساسا في ما يعيشه المبدع في أرض العرب من تهميش، وما يجده الجيل الصاعد من المبتكرين من قلة رعاية وعدم متابعة، فالباحثون المتألقون والطلبة الممتازون لا يجدون، في الغالب، البيئة الأكاديمية المناسبة (المخابر- المكتبات الرقمية- الأجهزة الإلكترونية...) والدعم المالي الكافي والتقدير الرسمي والاجتماعي المشجع لمشاريعهم البحثية ومبادراتهم العلمية، ولا يجدون في أحيان أخرى الفضاء التعبيري المفتوح الحر القادر على استيعاب أفكارهم الجديدة وأحلامهم الجريئة. وهو ما يدفعهم إلى طلب الهجرة ومجافاة الوطن والرضا بالغربة بديلا عن العودة إلى المواطن الأصلية؛ لأنهم يجدون في الدول المستقبلة للأدمغة المبدعة منحة الابتكار، وبراءة الاختراع، ومخابر البحث والتجريب، ودورات التدريب والتطوير، وحق التفرغ للبحث مع التمتع بالراتب، زيادة عن توفير لوازم الإبداع ومتعلقاته وأسباب التألق ومكافآته، ومقتضيات العيش الكريم والإحساس بالحرية والقدرة على التفكير لتدبر شتى الموضوعات في غير حجر على الرأي أو رقابة على المعلومة ومصادر المعرفة.

ومعلوم أن انتشار البطالة عموما، وبطالة المثقفين خصوصا، والمقدرة بنسبة 14% من مجموع السكان بحسب منظمة العمل العربية يدفع ذوي المهارة من العاطلين عن العمل إلى ركوب الهجرة بحثا عن مصدر رزق ومركز عمل. كما أن محدودية العائد المادي لأهل الخبرة والكفاءة في العالم العربي، وقلة الإنفاق على البحث العلمي في الدول العربية الذي يعد الأقل في العالم بحسب منظمة اليونسكو، يدفع علماء العرب إلى الترحال صوب الغرب. ومن المفيد التنبيه هنا إلى أن العرب ينفقون سنويا على شراء السلاح حوالي 60 مليار دولار، فيما لا يتجاوز الإنفاق على البحث العلمي سقف ستمائة مليون دولار. وتخصص الجامعات العربية 1% فقط من نفقاتها للعمل البحثي الأكاديمي. وفي المقابل، ترصد الجامعات الأمريكية 40% من ميزانياتها للبحث العلمي والتجديد البيداغوجي لوعي المشرفين عليها بأهمية الاستثمار في الذكاء لتحقيق التنمية الشاملة.

ولا سبيل اليوم إلى بلوغ سنام الحداثة وكسب معركة التقدم التقني والتطور الاقتصادي للعالم العربي من دون العمل على استنبات المعرفة في سياق عربي، والسعي إلى الإحاطة بالعقول الذاتية المبدعة ورعايتها وتوفير الظروف المناسبة لصقل مواهبها، واستثمار قدراتها الذكية في إنتاج الأفكار وإبداع المخترعات والانتماء إلى مجتمع المعرفة، ذلك أن العقل العربي المبدع هو أساس التقدم المنشود لا محالة.

أكاديمي وباحث- تونس

بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي