1429173
1429173
المنوعات

الجبل الأخضر ..على «طـريق الورود» بـين الروائح المعطـرة وأجـواء الشـتاء القارسـة

02 فبراير 2020
02 فبراير 2020

كتب: عبدالله بن سالم الشعيلي -

كثيرا ما كنت أتردد على الجبل الأخضر الواقع وسط عمان الذي يلامس أنفه الشامخ هام السحب البيضاء، جل زياراتي السابقة كانت إما هربا من لفح الصيف أو كما قال شاعر تونس الجميل أبو القاسم الشابي هو حب صعود الجبال. غير أن صعودي هذه المرة للجبل ذاته كان بنكهة مختلفة امتزج بروائح الورد المعطرة وأجواء الشتاء القارسة، المهمة اقتضت مني اقتفاء طريق الورد الجبلي والوقوف على تفاصيله من بدايات أول برعم غرس في قمم جبال الحجر مرورًا بقوافله المحمولة على ظهور الحمير وانتهاء بالروائح العبقة والعطور الزكية التي تفوح من كل بيت عماني.

لم تكن المهمة يسيرة خصوصا أن الرحلة هذه أخذتني إلى عوالم خفية وأسرار جلية تتعلق بالصنعة ذاتها. منها ما أباح به المشتغلون بها ومنها ما اعتبروه سرا من أسرار المهنة ومنها ما حاولت فهمه من خلال السير على خطى الأجداد وتتبع ما كانوا يقومون به من عادات وطقوس ما زال بعضهم شاهدا على ذلك العصر.

برعم قد في صخر

على ارتفاع شاهق يصل إلى أكثر من ألفي قدم فوق سطح البحر وبين الجبال الصلدة الصماء يبدأ برعم زهري بالتفتح بعد شتاء قارس تصل حرارته في بعض الأحيان إلى ما دون الصفر، لا يستغرق اكتمال هذا البرعم أكثر من عشرين يوما يصير بعدها أحمر نَظِرا ينشر رائحته العبقة حول المكان وتزهو ألوانها الحمراء الزهرية البراقة التي تنشر على المكان بهجة وسرورا.

الولوج إلى وادي الورود للوقوف على أسراره تطلب سفرا قاسيا يبدأ من تسلق قمة الجبل الأخضر منذ الصباح الباكر حيث البرودة تشير إلى ما دون العشر درجات في شتاء بدأ لتوه في التكون وزخات من مطر خفيف تنشر رائحتها على الطريق الملتف كأفعوانية عملاقة باسطة يديها من القاع حتى تصل إلى القمة، وسحب بيضاء نقية تمطت كسلا من تحت دثار جبل أشم استطاع بهامته العالية أن يحجب شمسا خجلى من الظهور فارتدت في خدرها السماوي، وسيارتنا تشق طريقها السالك نحو الأفق السماوي عندما بدت لنا طلائع شجر السلمى تبشرنا بقرب وصولنا إلى السفح المنبسط من الجبل الذي ارتدت أوديته حلة بيضاء ناصعة كبياض الثلج بعد أن خلعت أشجار الجوز عنها أرديتها الخضراء فبانت غصونها البيضاء الطرية.

وردة وبرمة ودهجان

مصبح العويمري ذو الثلاثين ربيعا من سكان مسفاة الشريقيين المتموضعة على حافة سفح الجبل كان رفيقنا الدائم في رحلة البحث عن طريق الورود وهو ذاته أحد المشتغلين بزراعة وتجارة الورد الجبلي، قال: «إنه لا مجال لنا الآن لرؤية جمال الورد فموسمه يبدأ من مارس المقبل حتى نهاية أبريل ولكننا قد نتمكن اليوم من شراء ماء الورد الجبلي المقطر بالطريقة التقليدية حيث بدأ الأهالي في بيع حصاد الموسم الماضي».

خالجني فضول في سؤاله عن الطريقة التقليدية للتقطير قبل البدء في البحث عن طريق الورود فسألته إن كان هنالك ثمة طرق حديثة للتقطير بديلا عن الطرق التقليدية وهل من فرق بينهما فضلا عن شرح مسهب عن تلك الطريقة، فبدت نبرة صوته عالية عندما نطق بالتقليدية.

مصبح لم يطل في كلامه فترك الإجابة لمن هو أكبر منه سنا - وهذا ديدن أهل القرى - لا يتحدث الصغير في حضرة الكبير فالحديث في حضرة الوالد سليمان بن خميس الريامي ذي السبعين خريفا لا يجوز بأي حال من الأحوال فهو كما قال -أي الوالد سليمان- إنه عاصر هذه الصناعة مذ كان صغيرا واشتغل فيها مع والده وعمه وأهل الجبل قاطبة ويعرف أسرارها كاملة من أول برعم جلبه الإمام قيد الأرض سيف بن سلطان اليعربي من الهند إلى الجبل الأخضر وتعجب الجبليون من تلك الساق المضخمة بالأشواك فهم لم يعرفوا من قبل وردا أو زهرا غير زهر الرمان النابت على حواف أوديتهم.

رحلتنا بدأت مع الوالد سليمان من النهاية وكأنه أراد أن يرينا نهاية رحلتنا قبل أن تبدأ، أخذنا إلى قنه الصغير حيث يقبع كنزه الدفين، مطبخ صغير متهالك مبني من الطين البني المقتلع من بين أسنان الجبل ترقد به عدة مواقد موزعة بين جنبات المطبخ الأربع. بكثير من الفخر أخبرنا بأنه بنى بنفسه منذ سنين عديدة هذا الموقد وبنى غيره في مكان آخر وثالث في مكان قصي. داخله شيء من الفخر ممزوجا ببعض العجب فبدت كلماته كمن يزهو بنفسه عندما بدأ بمقارنة المواقد الحديثة المعتمدة على أجهزة التقطير الحديثة التي لا طعم لها ولا رائحة وبين مواقده التي تفوح منها روائح الحطب المدخن حيث تشكل سحبا من الدخان الكثيف في أرجاء المطبخ.

أسماها بعاميته «الدهجان» وهي تتسع في كثير من الأحيان لأربع برم وفي أحيان إلى خمس وهو بكل فخر أوصلها إلى ست برم في الدهجان الواحد. وعندما طلبنا تفسيرا من مصبح عما قاله لنا سليمان اختصرها في كلمتين: موقد كبير بأربع عيون، وهو بمصطلحكم الحديث مصنع صغير لتقطير ماء الورد، ويبنى بالطين والحجارة. وقبل أن يسترسل الوالد سليمان في حديثه المفضل عن طرق تقطير ماء الورد الجبلي بطريقته التقليدية التي يعرفها وتربى عليها قاطعته بسؤال عن طريق الورد كيف نشأ والحياة الاجتماعية والاقتصادية التي تقوم عليه وطرق قوافله القديمة التي كانت تعبر ممرات الجبل الأخضر صعودا وهبوطا.

تتبع طريق الورد الجبلي

أمام طبق من التمر العماني المحصود من نخيل الجبل الأخضر عزم علينا مضيفنا لتناول فنجان قهوة محلاة بماء الورد، سألته عن مصدر التمر، فقال: هو من هنا من سفوح الجبل الأخضر، تعجبت أكثر فمعرفتي السطحية البسيطة أن النخل لا ينمو فوق السفوح الباردة وإنما في الأراضي المنبسطة الدافئة والحارة. أزال مصبح بشيء من الإسهاب بعضا من حيرتي قائلا: إن الجبل الأخضر هو سلة غذاء متكاملة ليس فقط لماء الورد والرمان والبوت والجوز وإنما لكثير من المزروعات لعل اشهرها الثوم العماني الذي تشتهر به قمم الجبال لجودته فضلا عن الكثير من الفواكه مثل الخوخ والمشمش والبرقوق والزيتون والكرز والفراولة والعنب والتين والتفاح وبعض أنواع التمور التي تثمر بشكل جيد في الحدود المتاخمة للأراضي المنبسطة من الجبل.

ارتسمت على ثغر سليمان ابتسامة عريضة وسافرت عيناه العسليتان بعيدا كمن يتذكر ماضيا جميلا، يوم كان حماره رفيق سفره الدائم في رحلاته عبر طريق الورد مجتازا منحدرات وهضاب الجبل الأخضر مارا بأودية وشعاب وأشجار نبتت وسط جلاميد الصخر في طريق بات معروفا لدى تجار الورد يسلكه الرائح والغادي من قمم الجبال حتى سهول قرية كمه بولاية نزوى في رحلة محفوفة بالمخاطر لمن يسلكها لأول مرة لكنها كانت رحلة روتينية عادية لمن شب وشاب على طرق المنحدرات.

في تتبع تاريخي لهذا الطريق يذهب بعضهم إلى أن هذا الطريق الجبلي الوعر كان سالكا وتعبره القوافل المحملة بماء الورد فهو يبدأ من قرية الشريجة بالجبل الأخضر التي تشتهر بزراعة أفضل أنواع الورد الجبلي ومنها إلى وادي بني حبيب ثم إلى دعن الحمراء نزولا إلى قرية «كمه» في مسار متعرج تبلغ مسافته حوالي 20 كيلو مترا ويمكن قطعه مشيا على الأقدام أو بواسطة الحمير في سبع ساعات تقريبا. الوالد سليمان يتذكر هذا الطريق بشيء من الشوق والحنين فيحكي لنا قصة من قصص رحلاته في هذا الدرب يقول: أحمِّل الحمار يوميا ستًا وأربعين زجاجة من ماء الورد الجبلي سالكا الطريق الوعر ذاته فتكسرت ست منها قبل وصولي وكان سعر كل زجاجة ماء ورد بقرش وربع القرش أي ما يعادل بسعر اليوم حسب كثير من الروايات ما لا يزيد على الخمسة ريالات للقرش الواحد.

ربما كان هذا الطريق واحدا من مئات الطرق الجبلية التي كان سكان الجبل الأخضر يسلكونها عند نزولهم إلى سهول بركة الموز وتنوف وكمه والحمراء ووكان والرستاق وغيرها من القرى الملتفة حول الجبل حيث كانت هذه الدروب بالنسبة لهم ممرات وشرايين تختصر عليهم المسافات التي يقطعونها مشيا على الأقدام أو باستخدام الحمير في بعض الأحيان.

الحياة الاجتماعية لمجتمع الورد

تقوم على زراعة الورد حياة اجتماعية يشترك فيها أفراد المجتمع الجبلي من الرجال والنساء والأطفال وتنسج حولها الكثير من القصص والحكايات طيلة موسم الزراعة والحصاد فتتناقل الألسن حكايات الإزهار والإنبات ومواسم التكاثر وكميات الأمطار وأشكال البراعم وألوانها. فما أن يبدأ الموسم في شتاءات يناير الماطرة حتى يبدأ المزارعون في التشمير عن سواعدهم بحراثة الأرض وتسميدها وتهيئتها للقادم الجديد من عقل الورد المعروفة في الجبل الأخضر كالورد البلدي والقرمزي والبلغاري والورد المحمدي وحين يحين فبراير تكون هذه العقل قد بدأت في الثمر وبدأت معها براعم الورد في الخروج إلى الدنيا مع نسائم الصبح الجبلية المشبعة بطراوة ونداوة الجبال وعندما يعلن ربيع مارس عن قدومه تكون البراعم قد نضجت وأينعت وأزهرت وحان وقت قطافها ويتحول منظر الحقول ومدرجات الأودية إلى اللون الوردي ناشرا في الارض عبقا ورحيقا فيهجر الجبليون بيوتهم الحديثة لتحل محلها بيوت الورد في الحقول، حيث العمل خلال فترة الإزهار والقطاف تمتد من نسمات الصباح الباكر حتى اختفاء قرص الشمس خلف الجبال العالية.

متعة قطاف الورد تشبه مواسم الحصاد في كثير من المجتمعات الزراعية حيث تجتمع الأسر كافة من الصغير والكبير والطفل والشيخ كل يساعد الآخر في حصاد زرعه وتجميعه وتنقيته وتخزينه بفرح وسرور والكل يغني ويسرد الحكايات والقصص عن أشياء كثيرة رافقت ذلك الموسم. ذكرني هذا المشهد بطفولة كنت أقضيها بين ضواحي النخيل في بدايات موسم القيض نساعد هذا في حصاد زرعه ونعاون ذاك في جداد نخله.

في موسم التقطير تكثر الحكايات وتتطاير الأخبار وتتناثر الأقاويل. أباطرة الورد تكون لهم الغلة الأكبر والسمعة الحسنة ويكثر حولهم القيل والقال عن غلتهم وطراوة ورودهم، ويعمدون إلى إيقاد مواقدهم وتنظيف دهاجينهم وتجهيز برمهم فموسم التقطير قد حان مطلع الصيف وقد يطول أمده حتى النصف الأول من مايو ومياه الورد المقطرة جيدا تعني دخلا وثروة جيدة والإحصاءات الرسمية الحكومية تصل كمية الإنتاج إلى 3600 لتر للفدان أي أكثر من 22 ألف لتر لإجمالي المساحة المزروعة للورد .

كما قال لي مرافقي خالد عبدالملك إن مهمتك لم تبدأ بعد فما حصلت عليه مجرد معلومات وعليك العودة من جديد إلى الجبل الأخضر لاستكمال المهمة الحقيقية عندما تبدأ عقل الورد في الإزهار وبراعمه في التفتح ولديك مهمة أخرى عند قطف الورد وتقطيره، هززت رأسي موافقا وودعت مصبحا والوالد سليمان على أمل لقائهما عما قريب في مهمة جديدة من مهام طريق الورود.