أورهان باموق: هبطت مكانة الشعر.. والجميع يكتب روايات الآن

في محاضرته بمعرض الشارقة الدولي للكتاب -
«أنا أكـتب للأتـراك أولا.. لكـنني أفكـر فـي الـ 62 دولـة الأخـرى أيضـا» -
الشارقة: ماجد الندابي -
أن تجلس أمام روائي باع أكثر من 13 مليون نسخة من كتبه وأنت تنظر إليه بعينيك المجردتين، وأن تستمع إليه مباشرة وهو يتحدث عن تجربته الروائية وأعماله التي تمت ترجمتها إلى 63 لغة عالمية، وأن يخبرك الكاتب الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 2006 م عن السؤال الأبدي لماذا نكتب؟؟، أن يجتمع كل ذلك تحت قاعة واحدة وأنت تحضر هذا الحدث الفريد من نوعه، فاعلم جيدا أن الحظ أسعدك بذلك..
الروائي التركي أورهان باموق الذي استضافه معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الـ38 تحدث في محاضرة له أنه يعكف الآن على كتابة إصدار جديد كان يفكر فيه منذ 30 عامًا، ويقول «إنني أخطط لكل شيء في وقت مبكر».
يقول باموق في بداية محاضرته: « أردت أن أكون فنانا ورساما وأنا في سن الثانية والعشرين من عمري، وأنا انحدر من عائلة مهندسين حيث كان جدي وعمي وأبي من المهندسين، وهذا التقليد الذي كنت سأمشي عليه، ولكنني دخلت إلى جامعة إسطنبول الفنية، وبالتالي بدأت في دراسة الهندسة المعمارية، ولكنني توقفت عن دراسة الهندسة المعمارية، وقررت أن أكون كاتبا روائيا. ويقول في محاضرته التي أدارها سعادة عمر سيف غباش مساعد وزير الخارجية والتعاون الدولي للشؤون الثقافية بدولة الامارات: «على أية حال مرت حوالي 15 عاما وأصبحت كاتبا مشهورا في تركيا، وبدأت كتبي تظهر في لغات مختلفة حول العالم، وتجرى معي المقابلات.
لماذا كنت تريد أن تكون رساما؟
ويقال لي لماذا كنت تريد أن تكون رساما؟ وقد أوضحت ذلك في سيرتي الذاتية التي حملت عنوان «إسطنبول.. الذكريات والمدينة» والتي ذكرت فيها أنني كنت شابا في مقتبل العمر وكنت أقرأ بجد وأتابع الرسم وأشعر به وكنت مولعا به، وذلك من خلال أن الرسم يجعل يدي تفعل شيئا ما ولكن عقلي لا يفكر فيه بالطريقة الواعية وعيا كليا، ولكنني أطلق لنفسي العنان لتقوم بتأدية تلك الرسومات بطريقة تلقائية انسيابية، مثلما يفعل أي شخص مع الفنون والحرف فهو يعتمد على المشاعر والأحاسيس، ولكن في مرحلة لاحقة أردت أن أكتب عن هذا الشعور، ما هو الشعور الذي يخالجك أثناء الرسم وكيف يشعر الرسام بذلك، وبدأت بكتابة رواية عن الرسامين الأتراك المعاصرين، لكن المشكلة كانت تكمن في أن هنالك الكثير من التأثير من قبل المدارس الأوروبية على الرسامين الأتراك، فلجأت إلى كتابة رواية تحتوي على قصة غامضة عن مجموعة من الرسامين فكتبت روايتي المشهورة «اسمي أحمر» وكانت تتناول الخطاطين واللوحات المرسومة في القرن السادس عشر في الدولة العثمانية، وكذلك الرسوم الفارسية والعربية، ولكن ظهرت الرسوم المصغرة التي جعلتني أفكر في الصراعات الغربية في الفن الذي يفرض فكرة الفردانية على القراء ويجعلني أفكر بطريقة يجعلني أتحدث فيها عن إبداع الفن، ومواجهة مسألة الفردانية هنا.
ويكمل باموق بقوله: إن ما اكتشفه الغربيون بالنسبة لعصر النهضة لم يكن رؤية العالم من خلال عيون الأفراد فقط، ولكن من خلال الرؤية من أعلى، ومحاولة استكشاف البشر برؤية مختلفة، والشعور بهم، وهذه إحدى إشكاليات الفردانية عند الإنسان والتي تحدثت عنها المدارس الأكاديمية الغربية في عصر النهضة، وهنالك جانب آخر من الأمر يتمثل في أسلوب الفنان وفردانيته وتوقيعه، وتعرفون أن روايتي «اسمي أحمر» هي أيضا تاريخية توضيحية تسهم بفكرة استكشاف الثأر الذي تركته فكرة القتل التي تركها الرسام .
كما ذكر أن «موت اللوحة المصغرة» يرجع جزئيًا إلى «عولمة» أساليب عصر النهضة هذه.
الفردانية في رواياتي
في العصر الذي بدأت فيه الكتابة، لم يكن لدينا الكثير من الروايات، لم يكن لدينا حتى تاريخ في فن الرواية، وهنالك جيل سابق من المفكرين قالو لنا إنه يجب علينا أن نتعلم فن الرواية، لأننا نحن الأتراك ليس لدينا فردانية كما هو الحال عند الأوروبيين، وهو الأمر الذي استحوذ على تفكيري في ذلك الوقت، وما زال إلى اليوم يلازمني تماما، وهو الأمر الذي اشتهرت به خلال الثلاثين سنة الماضية وهو محاولة تكريس الفردانية في أعمالي.
وعن مسألة المزج بين التقاليد مع الحداثة في عصرنا الحاضر هل يمكن أن يؤدي إلى ما يسمى بالفردانية الحتمية؟
فيقول: نعم إن نشأت وفق هذا المعنى المتمثل في الخلاف بين الشرق والغرب، وكلنا لدينا هذه النزعة الفردانية ولكن كلنا لدينا ما يهمنا في الثقافة والحيز المكاني الذي تمثله تلك الثقافات، وأنا أؤمن بفردانية كل شخص.
الشعر والرواية
أعتقد أن الثقافة التركية لا تختلف عن العربية، وهنالك معنا مقولة في اللغة التركية وهو أن كل شاب في سن العشرين هو شاعر، وهذا ينطبق علي أيضا، صحيح أنني كنت أقوم بالرسم في سن العشرين ولكن كنت أكتب شعرا في الوقت نفسه في تلك المرحلة العمرية، والكثير من الأصدقاء أيضا كانوا يمارسون هذا الفعل، وهذا تأثير تقليدي، فدور الشاعر في الدولة العثمانية كان مهما جدا، لا تنسى أن كتابة الشعر في الدولة العثمانية كان يمثل نوعا من الثقافة، فأنت تنتج ديوانك وتقول هذا ديواني، وبذلك فأنا شخص مثقف، أضع هذه الأوزان والقوافي وهذا دلالة على أن هذا الشخص مرتبط بالثقافة التقليدية الكلاسيكية، وينجز عملا ثقافيا معينا، وبذلك يكسبك نوعا من المكانة الاجتماعية، طالما أن الأشخاص المثقفين ينتهون بوظائف حكومية ويصبحون شعراء حكوميين، وهم أيضا من رجالات الدولة، فانت عندما تكتب ديوانا شعريا كأنك تقول أريد أن أكون مثقفا بارزا، وربما سياسيا بارزا أيضا، ولذلك فإن الأتراك كانوا لا يقرؤون الروايات.
وفن الرواية قدمه الإنجليز في عام 1850م والفرنسيون هم الذين قاموا بنشره أكثر، ولكن خلال السنوات الـ170 الأخيرة جابت الرواية كل أرجاء العالم، وقد هبطت مكانة الشعر، والجميع يكتب روايات الآن.
الجميع يقرأ روايات
ويضيف الروائي التركي: «وأخبرني ناشر في شنجهاي أن كل الصينيين يرسلون له روايات وقصصا، ولكن لا يرسلون شعرا، والشيء ذاته الآن ينطبق على تركيا.
في حين أنه عندما بدأت بكتابة الروايات منذ 40 عاما، كانت الرواية في تركيا لا تلاقي رواجا كبيرا، وكان عدد الروايات التركية المنشورة في ذلك الوقت 180 رواية فقط، ولكن لماذا ذلك، ما الذي حدث ليجعلهم يتركون الشعر ويلجؤون إلى كتابة الرواية في هذا العصر؟ هنالك عوامل عديدة وكثيرة صنعت هذا التغيير، ربما عائد دلك إلى نمط الحياة الحالية، وفكرة العولمة، والذائقة العامة، ولكن الملاحظ أن النساء يقرأن الروايات الآن بنسب تصل إلى 65%، وقال لي صديق كان يدير مجلة أدبية في تركيا أعلنوا عن جائزة في قسمين وهما الشعر والرواية، فوجدوا أن الجوائز في الشعر حصل عليها الرجال في حين ذهبت جوائز الرواية إلى النساء، وهذه مرة أخرى تظهر لنا عوامل أنثروبولوجية لست في مقام تفسيرها هنا.
فترى الروايات تتحدث عن وصف العالم، وأن الشعر فيه سحر اللغة، ولكن الإنسانية تقرأ الروايات أكثر في الوقت الحاضر، وأنت تستطيع ان تتواصل عبر الأدب الحقيقي عن طريق الروايات في الثقافات العالمية المعاصرة.
هل الرواية تحتضر
خلال السنوات الأخيرة كنت أقرأ عن الجدل الكبير عن عمق الروايات ولكن في السنوات الخمس الأخيرة بدأت دور النشر تتحدث عن أن الروايات بدأت بالهبوط أيضا من ناحية عدد القراء وهذا عائد إلى وسائل الاتصال الحديثة، والكتب الرقمية، وهنالك الكثير من الأسباب، ولا يوجد جهة يمكن لومها، وذلك لأن التاريخ مع التكنولوجيا يتحدان ليُحدثا هذه النتيجة.
ولكن لا تصدق الصحفيين الذين يقولون لك إن الرواية تموت، التحول الرقمي جعل بعض القراء يختفون، لكن من ناحية أخرى أتاح للناس أن يقرؤوا المزيد من خلال سهولة الوصول بعد الثورة الرقمية ، أصبحت كتبي أكثر شعبية في جميع أنحاء العالم، نشك في أن بعض الأضرار ستحدث لنا ، ولكن هناك أيضًا إمكانية للتواصل الآن على سبيل المثال بيع كتبك عبر أمزون وغيرها من الطرق، كما يمكنني التحدث مع القراء في الأرجنتين والدول العربية والآسيوية لذلك لا أريد أن أكون متشائماً.
ولكن لا يزال القراء في تركيا يقبلون على الروايات وهنالك نكتة شائعة بين الكتاب وهي أن الشعب التركي لا يشاهد التلفزيون في الليل، وإنما يقبل على قراءة الروايات، وذلك لأن الحكومة تمتلك القنوات التلفزيونية وتبث فيها دعاياتها الحكومية.
هل تكتب للأتراك
ـ ترجمت كتبك الآن إلى 63 لغة حول العالم هل تكتب للأتراك؟ «أنا أكتب أولاً للأتراك» ، قال باموق، «لكنني أفكر في الـ 62 دولة الأخرى أيضًا» وأكمل: فن الرواية هو فن عالمي، وهو فعل وطني أحيانا فنشأة الرواية في منتصف القرن التاسع عشر كان يمثل دعاية وطنية فكل شيء كان يرتبط في تلك الفترة بثقافة الثوار، ولكن الرواية تتغير مع تغير الحياة المحيطة بها، أنا أكتب لقرائي حول العالم، ولكن أقدم لهم أصالة التجربة التركية في هذا الفن.
المتعة أنك ترى الأشياء التي يراها الناس في محيطك ولكنهم لا يستطيعون توصيل إحساسهم بها ولا يستطيعون الكتابة عنها او رسمها وهنا يأتي دور المبدع، وأنا انتمي لثقافة إسطنبول وأكتب بهذه الطريقة.
الجدل في رواياته
وعن الجدل في رواياته وتعرضه للانتقاد قال باموق: وتعرضت في الماضي إلى هجوم من قبل القوميين الأتراك للاعتراف بمقتل الأرمن والأكراد في تركيا. لم أتحمل الانتقاد فحسب، بل وأيضاً قضايا المحاكم والسجن المحتمل، لأتمكن من ممارسة حرية التعبير، رغم ذلك، قال باموق إنه «كاتب سعيد». هذا طبيعي في جزء من العالم، يوجد الكثير من الكتاب في السجن، لدرجة أنني أشعر بالحرج للتحدث عن مشاكلي، أنا سعيد، أنا بالخارج، أنا بخير».
ـ هل أسفت على كتاب كتبته؟
أنا لم آسف على أي كتاب أصدرته من كتبي، ولكنني آسف على كتابة بعض الفصول، أو الصفحات، فأحيانا بعد أسبوعين من نشر الكتاب أشعر بحالة أسف شديد لأنني أقول كنت ينبغي أن أكتب هذا الفصل بطريقة مختلفة، وهذه حالات تحصل معي، ولكن على الرغم من ذلك لم أقم بتغيير شيء أصدرته وذلك لأن الكتاب عندما يصل إلى القراء يصبح نتاجا ثقافيا، وتحاول نسيانه، وتفتح ذهنك على كتاب جديد.
ـ كيف تفكر بكتابة رواية ؟
دائما أضرب هذا المثال وهو أن الرواية أشبه بالشجرة التي يوجد بها مليون ورقة، فأنت لا تستطيع أن تفكر في كل ورقة من هذه الشجرة التي تمثل الرواية، ولكن يجب عليك أن تضع خطة فتقول هذا الجذع، وهذه الأغصان وهنا يوجد بعض الورق على الأغصان، وتبدأ بكتابة الرواية، وأثناء الكتابة تظهر لك مزيد من الأغصان التي تنمو على الأغصان الأولى المرتبطة بالجذع وكذلك تنمو الأوراق على الأغصان الجديدة، فلذلك لا يمكنك أن تتخيل رواية مكتملة قبل أن تجلس لكتابتها، فأنت تقوم بتغيير الأشياء وإعادة بنائها ورسمها حسب مسار الأحداث، وتضع الكثير من السيناريوهات المختلفة لمسار الحدث الواحد، وقبل كتابتي للرواية كنت أقوم بعمل بحث عنها ففي رواية اسمي أحمر قمت بجمع الرسومات العثمانية القديمة بالإضافة إلى الكتابات القديمة، واتصلت بالأشخاص الذين يعملون في ميدان الخط، وأجريت الكثير من اللقاءات، وكذلك في رواياتي الأخرى فإنني أنزل إلى الشارع والتقي بالناس وأتعرف على حيواتهم، وفي بعض الأحيان أطلب من طلابي أن يجروا مقابلات مع الناس وبذلك يصبح عندي حصيلة جيدة من المعلومات والقصص والأفكار الجديدة ومن ثم أبدأ في كتابة روايتي وهذا البحث طبعا يعتمد على نوع الكتاب الذي أكتبه.
وبعض المقابلات التي أجريتها لأعمالي الأولى التي كانت لأشخاص في عمر جدي هم ميتون الآن وقد تكون أحداث الوقائع التي أخبروني عنها قد مر عليها 120 عاما، فلذلك تعتبر وثائق تم رصدها لأجل تلك الأعمال الروائية.
رواية متحف البراءة
كل التفاصيل التي تحدثت عنها تم عرضها الآن في متحف البراءة في إسطنبول وهو ليس كتاب فقط ولكنه أيضا متحف افتتحته في 2008 في السنة نفسها التي نشرت فيه الرواية، وهي تمثل كتلوج للمتحف نفسه، وجمال هذه الرواية يجمع في إمكانية مشاهدة الرواية بصريا بكل تفاصيلها عند زيارتك للمتحف.
لماذا تكتب؟؟
يقول: انا أكتب لأنني أريد من الآخرين في كل العالم أن يعرفوا ما نوع الحياة التي نعيشها والتي نريد أن نعيشها في إسطنبول،
أنا أكتب لأنني أحب رائحة الورق والحبر والقلم، وأنا أكتب لأنني أنزف رواية وأدبا أكثر من أي شيء آخر، وأنا اكتب لأنني شغوف، ولأنها عادة، وأنا أكتب لأنني أخاف أن أُنسى، وأنا أكتب لأنني أحب المجد والشغف الذي تمثله الكتابة لي، وأنا اكتب لأنني أحب أن أكون وحيدا، وأنا أكتب لأنني آمل أن أفهم لم أنا غاضب جدا عليكم؟، وأنا أريد أن أكتب لأن الآخرين يتوقعون مني أن أكتب، وأنا أكتب لأن لدي اعتقادا طفوليا بأبدية المكتبات.
