أعظم مائة كتاب غير أدبي: 5- أحلام من أبي لباراك أوباما
روبرت مكروم -
إعداد: أحمد شافعي -
في الفترة السابقة على انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2008، أي ذلك الموسم الجنوني الذي كان متوقعا أن تلعب هيلاري كلينتون فيه دور البطولة، وربما دور البطل المنتصر، كلَّفتني صحيفة أوبزيرفر أن أستعرض السير الذاتية الخاصة بالمتنافسين الأساسيين في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فكانت قائمة المرشحين تضم أسماء لا يصدقها عقل، من جون مكين وميت رومني إلى جون كيري وجون إدواردس وجو بايدن. وبقدر ما بدا وجود أولئك الساسة في قائمة المرشحين مقبضا، فقد كانت أعمالهم مجتمعة عند استعراضها أبعث على الانقباض. إذ بدا أن جميع الكتب المطلوب عرضها إما كتبها مؤلفون حزبيون من الباطن، أو «أمليت من أصحابها». كان كل واحد منها مزيجا من ضيق الأفق والنفاق والكليشيهات والجدل بأنصاف الحقائق وشذرات من الخطب البالية والبيانات الصحفية والبيانات السياسية وقد أعيد تسخينها جميعا للاستهلاك في نثر أمريكي من أسوأ نوع يمكن تخيله. فهل يعقل أنه لم يكن بين أولئك المرشحين جميعا من قرأ تلك الكتب، ناهيكم عن تأليفها؟
غير أن الأمر لم يخل من استثناء، شعاع من الصفاء والعبقرية في العتمة الطاغية. أحد الدخلاء الديمقراطيين، هو النائب عن ولاية إيلينوي، باراك أوباما، لم يكن هو الذي كتب كتابه بنفسه قبل بضع سنين وحسب، بل وكتبه سيرةً شخصيةً مؤثرةً جميلة الأسلوب روي فيها قصة فاتنة بأمانة وبلاغة وطرافة وموهبة غريزية أيضا في الحكي.
بدا واضحا منذ السطر الأول، «بعد شهور قليلة من عيد ميلادي العشرين، اتصل غريب يبلغني بخبر ...»، أن كتاب أحلام من أبي شيء متميز. بدا كتابا ذا نبرة، وذا سلطة لا يخطئها قارئ. والحق أنني في اللحظة التي تناولتها فيها، كانت سيرة أوباما تلك منشورة منذ اثني عشر عاما، وكانت بعد وقت كبير من صدورها تصعد لتصبح أحد الكتب الأكثر رواجا في سياق موجة التأييد الصاعدة لشعار «نعم نحن قادرون» المتفائل الذي رفعته حملة ذلك المرشح.
في 2007، وشأن ملايين كثيرة غيري، لم أكن سمعت من قبل باسم باراك أوباما، برغم أنني كنت أعرف معرفة طفيفة بالخطاب الحماسي الرائع الذي ألقاه في مؤتمر الحزب الديمقراطي سنة 2004. ثم لم أبدأ فقط في متابعة حملته، بل كتبت في صحيفة أوبزرفر أن مرشحا رئاسيا يحظى بهذه المواهب الأدبية والبلاغية يستحق أن يكون في البيت الأبيض، وتنبأت أنه قد يفوز، خلافا لما بدا آنذاك من احتمالات. على أي حال، بعد عام من ذلك، كان كل شيء قد تغير. هيلاري كلينتن هزمت بأصوات الناخبين. وتحول «نعم نحن قادرون» إلى «نعم نحن قدرنا».
القصة المروية في أحلام من أبي ملفتة بقدر صعود أوباما إلى السلطة، وتقدم حساسية رهيفة لأزمة دائمة في الوضع السياسي الأمريكي: العِرْق. هذه هي القضية التي أرَّقت توماس جيفرسن «كأنها إنذار حريق في جنح الليل» على حد تعبيره، وهي نقطة انطلاق أوباما. بوصفه أمريكيا أفريقيا يعلن أوباما عن طموحه إلى أن يتناول «على نحو ما صدوع العرق التي وسمت التجربة الأمريكية». إذ يظل العرق بالنسبة لكثيرين أحد القضايا الجدلية في أمريكا المعاصرة. ولقد استولت العلاقات العرقية على رئاسة أوباما. وموقفه المضطرب حيالها في بعض الأحيان يكشف عن مدى صعوبة الموضع.
بعيدا عن هذا، يمثل كتاب أحلام من أبي صورة لافتة الصدق لشاب يواجه أسئلة الهوية والانتماء الكبرى. بوصفه ابنا لأب أفريقي أسود من كينيا، وأم أمريكية بيضاء من ويتشيتا بولاية كنساس، كان على أوباما الابن أن يخوض أوديسة سيكولوجية حاسمة، حافلة بالكثير من العواطف المتصارعة. في البداية، يتعقب حركة عائلة أمه من ولاية كنساس إلى هاواي ومنها إلى إندونسيا. ومن مزايا الكتاب الفريدة والكثيرة طريقة أوباما الطبيعية الجريئة في الحوار. فهو يصور مشاهد لا حصر لها بين نفسه في شبابه وأمه وأجداده مع شذرات من حوارات يحسن تذكرها أو ربما يحسن تخيلها، وهي الحوارات التي أضفت على الحكاية طابعا عفويا مبهجا.
ومع تقدم الكتاب، يسافر باري الشاب أخيرا إلى كينيا ليعالج الحقيقة الأليمة المتعلقة بـ«الشيخ الكبير»، أي أبيه وحياته، ويتصالح مع إرثه كأمريكي أفريقي. بمجرد طلاق أبويه، ترك هو وشأنه. يكتب «في مدى قصير بصورة لا تحتمل، يبدو أن أبي وقع في نفس السحر الذي وقعت فيه أمي وأبواها، وخلال السنوات الست الأولى من حياتي، وحتى بعدما تبدد ذلك السحر، وانجذب كل منهما مرة أخرى إلى العالم الذي كان قد ظن أنه فارقه وانقطع عنه، بقيت أنا في المكان الذي سبق أن تواجدت فيه أحلامهما». هنا يستعيد «قلبه المتعب، ودماءه المخلوطة، وروحه المقسومة، وصورة الهجين الشبحية العالقة بين عالمين».
ويكرر أن هذه محاولة لـ «سرد أمين لحيز معين في حياتي». بصفته «صبيا يبحث عن أبيه» يقل التركيز حتما من أوباما على أمه، آن دونهام. فلعل غيابها هو أكثر سمات هذه السيرة دلالة بما يثيره من أسئلة عن علاقة أوباما بالمكون الأمريكي في معادلة هويته.
لقد تحمس كثير من المعلقين لـ أحلام من أبي فكانت توني موريسن من أوائل من أدركوا «قدرته» أي قدرة أوباما» على تأمل مزيج التجارب الاستثنائي التي مر بها، فمنها المألوف ومنها غير المألوف، والتأمل الحقيقي في هذه الأمور بطريقته في التأمل، ووضع المشاهد في بنية سردية حوارية جدلية تتعرض لكل تلك الأشياء التي لا يراها المرء غالبا رؤية واضحة في روتين السيرة السياسية» إلى أن تخلص في النهاية إلى قولها في الكتاب «إنه فريد. إنه كتابه بحق. وليس لهذا مثيل».
كما قالت مجلة تايم إن أحلام من أبي «أفضل سيرة مكتوبة لسياسي أمريكي». ووصفت ميتشيكو كاكوتاني من نيويورك تايمز السيرة بـ»أكثر سير الرؤساء المستقبليين إثارة وغنائية وصراحة». في نهاية ولايته، يجعلنا هذا الكتاب نتوقع الكثير من سيرة أوباما في البيت الأبيض، وإن بقي كتاب «ذكريات شخصية ليوليسيز إس جرانت» مثالا صعب الاتباع.
