ما يزال الجوع متفاقمًا والغلاء فاحشًا
في إحدى مراكز التسوق بمخيم البريج، وقف لؤي نصر (49 عامًا) يحدّق طويلًا في كيس بصل صغير يحمله بيده. لم يصدق أن بصلتين فقط كلفتاه عشرين شيكلًا، بينما كانت الحزمة الكاملة تباع قبل الحرب بشيكلين لا أكثر. وقف في طابور طويل أمام بقالة صغيرة علّه يجد علبة لحم يضيفها إلى وجبته البسيطة، لكن الأسعار كانت كفيلة بإبعاده. العلبة الواحدة تباع بخمسة وستين شيكلًا، وإذا أضاف إليها الزيت والحطب والملح، فإن ثمن وجبة واحدة يتجاوز مئتي شيكل. قال بصوت يقطعه الأسى: «من يقدر على ذلك في ظل هذا الحصار؟».
وجبة مستحيلة
في بيته المتهالك، ينتظر أبناؤه الخمسة وجبة قد لا تأتي. لم تعد المائدة العامرة بالخضروات والبقوليات كما في الأيام الماضية، بل تحوّلت إلى صحون فارغة تتناثر فيها كسرة خبز يابسة. الاحتلال بعد فتحه للمعابر جزئيًا يمنع دخول اللحوم والفواكه والبيض، وكل ما هو مصدر للبروتين، ويترك الغزيين عالقين بين شاحنات قليلة تُنهب معظم حمولتها وبين أسعار فاحشة لا تطالها أيديهم.
يستعيد لؤي ذكريات ما قبل الحرب حين كان بإمكانه شراء ما يلزمه بسهولة. الآن يقف عاجزًا أمام رفوف الأسواق، يرى البضاعة لكنه لا يستطيع الوصول إليها. فالأثمان تضاعفت عشرات المرات، والسيولة النقدية شبه معدومة. لم يعد أمامه سوى خيارين: إما الاكتفاء بالانتظار، أو التوجه إلى السوق السوداء حيث الأسعار أفظع، ليبقى الجوع سيد الموقف.
في كل مرة يدخل فيها إلى السوق، يشعر وكأنه في اختبار قاسٍ. يخرج فارغ اليدين، محاصرًا بوجوه الناس الذين يحملون ذات الهموم. بعضهم يحدّثه عن بصلٍ دفع فيه ماله القليل، وآخر عن رغيف خبز لم يجده بعد طول بحث. هكذا يختصر لؤي يومياته: بحث عن الطعام، وانكسار أمام الأثمان، وانتظار لا ينتهي، وانفراجة لا تأتي.
وهم الانفراجة
بعد خمسة أشهر من الحصار الخانق ونفاد السلع الغذائية من أسواق غزة، بدا فتح المعابر بشكل جزئي في 5 أغسطس الحالي وكأنه انفراجة. دخلت شاحنات محملة بالمساعدات والبضائع التجارية، لكن الحقيقة على الأرض سرعان ما بددت الوهم. الكميات كانت محدودة إلى حد لا يلبي أبسط احتياجات السكان، ومعظم المساعدات الإنسانية تعرضت للنهب قبل أن تصل إلى وجهتها.
الإجراءات المعقدة التي فرضها الاحتلال على دخول هذه الشاحنات حوّلت العملية برمتها إلى عرضٍ بطيءٍ ومحدود النتائج. البضائع التي سُمح بدخولها في الغالب غير أساسية، فيما ظلّت المواد الحيوية كالدقيق والخضروات واللحوم غائبة عن المشهد. بدت الأسواق كما لو أنها صالات فارغة، يزورها الناس على أمل أن يجدوا شيئًا يسد رمقهم، ليصطدموا بفراغ الرفوف أو بارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، وفق ما رصدته جريدة الأيام.
محمد القيشاوي، رجل في الأربعينيات من عمره، يصف الوضع بعبارات واضحة: «البضائع تدخل بكميات محدودة جدًا، لا تتجاوز 20% من احتياجات القطاع. وما يدخل ليس من الأساسيات. الطحين والأرز والزيت، مثلًا، لم يسمح بدخولها للتجار».
ويشرح القيشاوي خلال حديثه لـ«عُمان» أن ما يدخل من بضائع يُباع بأسعار باهظة، لا يقدر الناس على تحملها. أزمة السيولة تجعل الأمر أكثر تعقيدًا، إذ يطلب بعض المتاجر الدفع عبر تطبيقات تحويل الأموال، وهو ما يرفضه أغلب التجار لعدم توفر السيولة لديهم. النتيجة أن المواطن يجد نفسه محاصرًا بين شح البضاعة وغياب القدرة على الدفع.
ويوضح: «المجاعة ستظل مستمرة طالما أن الاحتلال يسمح فقط بدخول بضع شاحنات يوميًا. بعض التجار يحتكرون البضائع القليلة ويبيعونها بأسعار مرتفعة جدًا. الناس لا تستطيع الشراء، والوضع مرشح للمزيد من التدهور».
الاحتكار، بحسب القيشاوي، ليس مجرد ظاهرة تجارية، بل سياسة متعمدة تضاعف من معاناة الناس. في ظل غياب الرقابة وحماية المستهلك، يظل المواطن الحلقة الأضعف، يدفع من قوته اليومي ثمن الحصار والاحتكار معًا.
جوع واحتكار
عبدالحي أبو سيدو، شاب في الثلاثينيات من عمره، يقف وسط ازدحام الناس في سوق السرايا بمدينة غزة. يقول وهو ينظر إلى البضائع المعروضة: «ما سمح الاحتلال بدخوله غير كافٍ، ولا يسد جوع الناس. البضائع الأساسية لم يسمحوا بدخولها، والمجاعة ما زالت مستمرة».
يضيف أبو سيدو خلال حديثه لـ«عُمان» أن الأسعار لم تنخفض بالقدر الذي يسمح للناس بالشراء. فحتى لو انخفض سعر بعض السلع، تبقى بعيدة المنال بسبب شح السيولة النقدية. العمولة المفروضة على الحصول على النقود زادت الطين بلة، ما جعل الناس عاجزين عن تأمين أبسط الاحتياجات.
ويشير إلى علبة تونة صغيرة معروضة على الرف: «الناس لا تستطيع شراء هذه العلبة، فما بالك بمن يعول أسرة كبيرة؟». يختم عبدالحي حديثه بحسرة: «نحن ننتظر أن يسمحوا بدخول البضائع الأساسية، فالناس تعبت. الوضع صعب جدًا ولا يُحتمل. كل يوم يمر دون تغيير يعني مزيدًا من المعاناة والجوع».
أما محمد اللهواني، تاجر ومدير مركز تسوق في مخيم البريج، يروي صورة السوق من الداخل. يقول: «السيولة المالية شبه معدومة، والطلب أكبر بكثير من العرض. الأصناف التي دخلت لا تتجاوز عشرين صنفًا، والأسعار ارتفعت بشكل كبير جدًا مقارنة بما قبل الحرب».
يضرب أمثلة: «اللحوم ارتفعت من 10 إلى 65 شيكلًا للكيلو، الشيبس من 3 إلى 20 شيكلًا، والأرز من 35 إلى أكثر من 150 شيكلًا. هذه أرقام لا يمكن للمواطن البسيط مجاراتها».
الأزمة، كما يوضح اللهواني خلال حديثه لـ«عُمان»، لا تتعلق فقط بندرة البضائع، بل أيضًا بغياب سياسة عادلة لحماية التجار الصغار والمستهلكين. الاحتلال يقيد التنسيق مع كافة التجار، ما سمح لفئة محدودة بالتحكم في السوق وفرض الأسعار كما تشاء.
بالأرقام.. آلية الاحتلال القاتلة
من جهته، قال عائد أبو رمضان، رئيس غرفة تجارة وصناعة غزة، إن «متوسط ما يدخل قطاع غزة أسبوعيًا منذ مطلع أغسطس لا يتجاوز نحو 900 شاحنة، لكن ثلثي هذه الكميات لا تصل إلى مستحقيها بفعل النهب المنظم والعراقيل التي يفرضها الاحتلال».
وأضاف، في تصريح لـ«عُمان»: «في الخامس من أغسطس أقر الاحتلال آلية جديدة لإدخال البضائع التجارية عبر قائمة محدودة من التجار الذين حظوا بالموافقة المسبقة، وهو ما سمح بفتح الباب واسعًا أمام الاحتكار والتحكم في السوق. هذه السياسة لم تُحسّن تدفق السلع، بل زادت من حدة الأزمة».
وأوضح أبو رمضان أن «السلع الأساسية مثل الدقيق والسكر والخضروات تدخل بكميات محدودة، وغالبًا ما تُنهب أو تتحول إلى السوق السوداء. المواطن عاجز عن شراء ما يسد رمقه، فيما تتضاعف أرباح فئة صغيرة من التجار، الأمر الذي يفاقم معاناة عشرات آلاف الأسر».
وأشار إلى أن «الأسواق أظهرت خلال أغسطس تراجعًا نسبيًا في أسعار بعض المواد الغذائية مقارنة بيوليو، مثل السكر والبطاطا والدقيق التي هبطت بنسب تراوحت بين 44% و56%». وبين: «لكن رغم هذا التراجع، تبقى الأسعار الحالية أعلى بعشرات الأضعاف مما كانت عليه قبل الحرب. فكيلو السكر يباع اليوم بنحو 126 شيكلًا، مقارنة بـ3 شواكل قبل الحرب. البطاطا ارتفعت من 2 شيكل إلى أكثر من 45 شيكلًا، والدقيق من 35 شيكلًا للكيس إلى أكثر من 700 شيكل، والبندورة من 2 شيكل إلى نحو 100 شيكل».
وختم بالقول: «السلة التي كانت تكفي أسرة متوسطة قبل الحرب بنحو 92 شيكلًا، باتت اليوم تكلف أكثر من 1,600 شيكل، أي ما يعادل 17 ضعفًا تقريبًا. نحن أمام وضع اقتصادي كارثي، يختنق فيه السوق بالغلاء والاحتكار وتُنهب البضائع في الطرقات، فيما يدفع المواطن البسيط الثمن الأكبر من قوته اليومي».
