على شاطئ بحر غزة.. لم تعد الشمس تشرق للحياة بل لتكشف وجوهًا أخرى من العذاب
من بين ركام الخيام التي تغطي الشاطئ الرملي غرب غزة، تبرز عينا خديجة خليل العجوز السبعينية وقد غلب عليهما الاصفرار والجفاف. كانت تجلس على لوح خشبي مكسور، تحتمي بقطعة من قماش ممزق يرفرف على عمود حديدي صدئ.
تقول بصوت واهن تكاد الكلمات تتكسر في فمها: «من منزلنا في حي الشجاعية خرجنا مشيًا على أقدامنا. لا نملك سيارة ولا عربة. مشينا أيام وأيام، كل ما نقول قربنا أن نصل، يردوا علينا لا.. وخطر جيش الاحتلال قادم علينا».
رحلة عذاب تستحضر خديجة، التي تجاوزت الخامسة والسبعين، الرحلة من حيها إلى شاطئ البحر كما لو كانت رحلة عذاب في أعماق الجحيم. تركت خلفها بيتًا رمليًا بنته بيديها قبل خمسين عامًا، وذكريات عن زوج رحل قبل سنوات، وصور أبنائها الأربعة المعلقين على جدران غرفة الضيوف. لم تأخذ معها إلا ثوبها الثقيل ومصحفًا صغيرًا أخفته في صدرها.
تضيف لـ«عُمان»: «حفيدي، ما قدر يكمل الطريق. اتعبه المشي كثيرًا. اضطريت أن أحمله على ظهري. وأنا تعبانة ومريضة، لكن ما قدرت أتركه. فحينما وصلنا البحر، فكرنا اننا في الأمان، لكن وجدنا الموت ينتظرنا أيضًا».
في الخيمة التي تقيم فيها خديجة منذ أسابيع، تحيط بها الحشرات من كل صوب، والماء المالح يتسرب إلى الأغطية كل مساء. تقول: «الموت في بيتنا كان أكرم. هنا لا توجد حياة. نحن نعيش مثل الحشرات، نأكل يوم ونصوم عشرة. لو أموت كان أهون من الذل هذا».
وهي تتحدث، تمتد يدها المليئة بالتجاعيد إلى كيس بلاستيكي يحتوي على رغيف خبز يابس. تتنهد وتهمس: «ما عاد في طعم للأكل. الطعم الوحيد اللي ضل هو طعم الخوف والذل في الفم».
قبل النزوح، كانت خديجة تزرع البقدونس خلف بيتها، وتعجن الخبز وتوزعه على جيرانها. اليوم، هي امرأة أخرى، لا تزرع إلا الدموع في رمال الغربة الداخلية، ولا توزع سوى الألم على من حولها.
نزوحٌ قاتل حين يُذكر النزوح في الحروب، عادةً ما يتبادر إلى الذهن مشهد الفرار للنجاة. لكن في غزة، بات النزوح مرادفًا للموت البطيء، حيث لا طريق يفضي إلى الأمان، ولا مخيم يضمن الحد الأدنى من الحياة. ومن رحم هذا الجحيم، تخرج الحكايات ثقيلةً كالرماد، ترويها أفواه لم تذق الراحة منذ شهور.
منذ بدأت حرب الإبادة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، لم تهدأ قوافل النازحين. وفي مايو ويونيو 2025، تضاعف هذا النزوح قسرًا بعد أوامر الجيش الإسرائيلي بإخلاء شرق القطاع بالكامل، ودفع أكثر من مليون إنسان نحو شواطئ غزة الغربية. لم تكن هذه الرحلة نجاةً، بل كانت نقلة من موت إلى موت، من ركام إلى بحر، ومن خوف إلى ذل.
الموت في غزة لا يأتي على هيئة صاروخ فحسب، بل يحمل وجوهًا كثيرة: جوعًا، عطشًا، بردًا، حرًا، واغتصابًا يوميًا للكرامة الإنسانية. هنا، لا يفر الناس من الحرب، بل منها وإليها في الوقت ذاته. فكل خيمة في غزة هي قبر مؤجل، وكل سلة غذاء هي معركة انتظار، وكل هدنة موعودة تتحول إلى لعنة جديدة من التأجيل والخذلان.
شاطئُ الوجع من الشجاعية إلى جباليا، ومن خان يونس إلى رفح، تناثرت العائلات على رمال البحر التي لم تكن يومًا بهذا القدر من القسوة. لم يعد البحر صوتًا للحرية ولا مخرجًا للحياة، بل صار آخر خط في رحلة التيه. وعلى ضفافه، نصب الناس خيامًا ممزقة من بقايا الأكياس، وغطوا أطفالهم بأسمال لا تقيهم حر النهار ولا برودة الليل.
كلما اقتربت من شاطئ غزة في هذه الأيام، تسمع نداءات النساء وصرخات الأطفال المتعطشين لحليب أو دواء أو دفء.
وئام عبدالعال تقول إحدى اللاجئات: «نحن نعيش تحت السماء، لا سقف يحمينا ولا ماء نشربه. البحر أمامنا، لكننا لا نستطيع حتى أن نغتسل بمائة».
كل صباح، تدفن عائلة ما طفلًا لم يصمد في وجه الجوع أو المرض أو الحمى. وكل مساء، تنتظر آلاف العائلات أن يُعلن عن هدنة حقيقية تتيح لهم العودة إلى حطام بيوتهم. حتى الموت، لم يعد يحظَ هنا بمراسم وداع لائقة. الجنازات في مخيمات النزوح تتم بصمت، والتوابيت تُحمل على الأكتاف وهي ملفوفة في ملاءات النوم، وتُوارى الثرى في الرمال على عجل.
أنين الخيام على امتداد شاطئ غزة الغربي، تنبسط خيام النزوح كقبور مؤقتة، تروي حكايات أناسٍ شُرّدوا من بيوتهم وأحلامهم، وسُجنوا في مساحات ضيقة من القهر والجوع والانتظار. في تلك الخيام، لا تُحكى القصص بالكلمات وحدها، بل بالتجاعيد التي حفرتها الشمس على الوجوه، وبالأنين المكتوم في صدور الأمهات، وبأقدام الأطفال التي اعتادت الرمل بدلًا من بلاط المنازل.
هنا، لا مجال للخصوصية ولا للراحة، ولا حتى للصمت. الكل يتقاسم الحرمان، والكل يشهد على انهيار المعاني الأساسية للحياة: بيت، طعام، دواء، كرامة. ومع كل غروب، تُطوى يوميات جديدة من النزيف البشري، تُسجل فيها شهادات لا تجد من يسمعها إلا الرمال والبحر. بين كل خيمة وأخرى، قصة خذلان، وجرح لم يُضمد، وأم مكلومة لا تعرف كيف تخفف عن رضيعها ألم الجوع.
هذه الشهادات القادمة ليست مشاهد عابرة من فيلم طويل، بل هي نبضٌ حيّ من قلوب ما زالت تنبض رغم اليأس، تروي بلسان أصحابها ما لا يمكن للإحصاءات أن تبوح به. هي روايات الخيام التي لا تغلق أبوابها لليل ولا للنهار، بل تظل مفتوحةً على قسوة الواقع، وشاهدةً على حجم الخسارة التي لا يقاس جزء منها بالموت فقط.
الموت أهون «الموت أهون من النزوح»، هكذا قالت أسماء المحتسب، وهي امرأة في الستين من عمرها، لجأت من منطقة الزنة إلى شاطئ خانيونس. كانت ترفع يدها إلى السماء وهي تصرخ: «نحن لسنا نازحين فقط، وإنما نموت في نزوحنا، دعوهم يموتونا بدل ما نذوق هذا الذل».
تعيش أسماء مع 6 من أحفادها في خيمة لا تتجاوز مساحتها مترين في مترين. تشكو من قلة الطعام، وتقول إنهم يأكلون وجبة واحدة كل يومين، وغالبًا ما تكون علبة فاصولياء منتهية الصلاحية.
تتابع لـ«عُمان»: «أقسم بالله أن الذباب صار أقرب إلينا من الناس. إبنتي جاءت بابنها مريض، لم نجد له دواء ولا حليب. من شدة الجوع والعياء نام، بعد ساعة تفقدنا أحواله فوجدناه ميت». وتكمل بصوت مخنوق بالبكاء: «هذه ليست حياة، هذا موت يومي ببطء، الله يعجل بالفرج».
جوع وذل في خيمة نصبت على رمال خانيونس الغربية، تقيم أم أشرف عبدالهادي، امرأة في التاسعة والخمسين. تقول: «أنا لم أخاف من الموت، بل خائفة من هذه الحياة المذلة. ما عمرنا رأينا هذا الذل، لا أيام النكبة ولا النكسة».
كل يوم، تحمل أم أشرف دلوًا وتبحث عن طعام وماء صالح للشرب. تعود بخيبة أمل أغلب الأحيان. تستند إلى عصا خشبية وتهمس: «يقولون أن وقف إطلاق نار قد تم؟ نتمنى ذلك. لأن كل يوم يزيد الجوع والدماء والشهداء».
عندما تسألها عن أمنيتها، تقول: «أموت في بيتي، وأدفن بجانبه، لا أريد أن أبقى في الخيمة. أمنيتي أرى الشمس من فوق سقف بيتنا، لا من الخيمة المثقوبة» مفاوضاتُ وهم منذ مايو 2025، دخلت مفاوضات وقف إطلاق النار مرحلة جديدة عبر وساطة مصرية-أمريكية-قطرية، مع تعهدات إسرائيلية مبدئية بوقف مؤقت للعمليات العسكرية مقابل الإفراج عن أسرى. لكن في يونيو، تبخرت الآمال مجددًا، بعد أن أعلنت الحكومة الإسرائيلية رفضها مقترحات تتعلق بانسحاب كامل من غزة.
ورغم أن المقاومة الفلسطينية وافقت مبدئيًا على بنود تتضمن وقفًا طويل الأمد، وضمانات دولية، فإن الاحتلال أعاد المفاوضات إلى نقطة الصفر، بحجة أن «شروط حماس غير مقبولة».
ومع كل إعلان عن قرب التوصل لاتفاق، تزداد عمليات القصف والتنكيل. فيما تعتبر الأمم المتحدة أن الوضع الإنساني في غزة لم يعد يحتمل، وأن كل ساعة تأخير في الوصول لاتفاق تعني مزيدًا من الموت، لا سيما في مخيمات النزوح غرب القطاع.
أمل صابر في الأربعين من عمره، فقد أيهم زين الدين زوجته وابنه في قصف على حي الزيتون، ثم نزح مع ما تبقى من عائلته إلى شاطئ غزة.
يقول: «الصبر هو الأمل. لكن الأمل ينهار يوم وراء يوم. اليوم يتحدثوا عن صفقة، غدًا تتعثر. صرنا نعيش على الوهم».
يحاول أيهم أن يرسم البسمة على وجه أطفاله، لكنه يعترف: «لم يبقَ عندي طاقة. يلعب أطفالي تحت الشمس، والطفل لا يعرف أن اللعبة هذه ممكن تنتهي بصاروخ».
ورغم كل شيء، لا يزال أدهم يتمسك بالكرامة: "أنا لا أريد الخروج من غزة. أريد العيش هنا، ولو بخيمة بكرامتي. نحن شعب لا ينكسر بسهولة».
ختامٌ موجع ما يحدث في غزة اليوم ليس فقط مأساة، بل وصمة في جبين العالم الصامت. ففي خيام الرمل، لا يعيش الناس بل يحتضرون. يموتون بلا ضجيج، ويُغتالون بلا صور. هنا، على شاطئ بحر غزة، لم تعد الشمس تشرق للحياة، بل لتكشف وجوهًا أخرى من العذاب.
قد تكون الحرب قد سرقت أرواحًا، لكنها سرقت قبل ذلك كرامة الناس. فالنازح في غزة لا يحلم بالطعام أو الأمان فقط، بل بأن يُعامل كإنسان.
وحتى ذلك الحين، سيبقى الوجع سيد المكان، والبحر شاهدًا صامتًا على استشهاد الحياة في غزة.
