الفصل التالي من الذكاء الاصطناعي

12 فبراير 2024
ترجمة أحمد شافعي
12 فبراير 2024

أصبح الذكاء الاصطناعي الدافع الرئيسي للارتفاع في سوق الأوراق المالية في 2023 برغم مخاوف واضطرابات في «كابيتول هيل» حيال غياب التنظيم والقواعد عن هذه التكنولوجيا. ولعل الخوف قد تضاءل من أن يحيلنا الذكاء الاصطناعي فريسة للروبوتات على غرار تيرمينيتور، ولكنه لم يتبدد تماما. والأمر الأساسي الذي يثير قلق الخبراء المحدثين هو اندفاع الصين إلى أن تكون البلد الأول في الذكاء الاصطناعي، إذ نشرت من الأبحاث العلمية في هذا الموضوع أكثر من مثلي ما نشرت الولايات المتحدة في عام 2022 مع توسيع تقدمها على الولايات المتحدة في تطبيقات الأنماط المتصلة بالذكاء الاصطناعي. وهذه الأرقام ليست لعبة أو مباراة بالنسبة لبكين، وإنما هي تشير استراتيجيا واقتصاديا إلى اتجاه مثير للقلق. ومع ذلك، تشي جميع المؤشرات بأن الولايات المتحدة سوف تبقى القوة المهيمنة في العالم على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في 2024.

وفقا لتراكسن تكنولوجيز، في الولايات المتحدة الآن أكثر من 18 ألف شركة ذكاء اصطناعي ناشئة. وقد انتهت دراسة لأدوب Adobe إلى أن 77% من المستهلكين الآن يستعملون تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. فضلا عن ذلك، تبين لشركة مكينزي الاستشارية أن تبنِّي الأنشطة الاقتصادية للذكاء الاصطناعي تجاوز ضعف ما كان عليه في 2017، إذ يستعمل أكثر من نصف الأنشطة الاقتصادية الأمريكية شكلا من أشكاله. وإجمالا، تنبأت مكينزي بأن الذكاء الاصطناعي التوليدي وحده سوف يضيف ما بين 2.6 و4.4 ترليون دولار في العالم إلى الاقتصاد العالمي، وبأن القدر الأكبر من هذا سوف يتدفق إلى الولايات المتحدة باعتبارها قوة الذكاء الاصطناعي المهيمنة في العالم.

وليست هيمنة الولايات المتحدة على الذكاء الاصطناعي وليدة المصادفة، ولا هي نتيجة تخطيط واستثمار حكوميين، شأن جهود اللحاق الصينية في ظل حكم الرئيس شي جينبنج. ولكنها ملحمة مستمرة منذ عقود شارك فيها علماء ومهندسون وعمالقة اقتصاد ومستثمرون وأصحاب رؤى ومشعوذون، ناهيكم بثقافة اقتصاد السوق الحرة الأمريكية المنفتحة على الأفكار الجديدة والتقنيات الجديدة والعازمة على ضخ الأموال حيثما تراءى لها عائد جيد. ومع ذلك، ففي عام 2023، برز ثلاثة أشخاص منذرين بالوجهة التي يولي إليها قطاع الذكاء الاصطناعي إما خيرا أو شرا في عام 2024.

الأول هو سام ألتمان، الرئيس التنفيذي والعبقري المسؤول عن (أوبن آيه آي) و(تشات جي بي تي» وهو تطبيق الذكاء الاصطناعي الذي جعل الأمريكيين والعالم يعون بالإمكانيات المتفجرة للذكاء الاصطناعي التوليدي. والذكاء الاصطناعي التوليدي قادر على توليد نصوص وصور وغيرهما، وهو يعيد صياغة طبيعة حياتنا وعملنا وممارستنا للاقتصاد. ولقد اجتاح العالم بسبب قدرته بمنتهى اليسر على إبداع قصائد ومقالات وحله المشكلات البحثية تقريبا بمجرد الأمر (بل لقد وصل الأمر بـ(تشات جي بي تي) حد أن شخصا استعمله في عرض كتاب لي لم أؤلفه بعد).

مضت الشهرة المفاجئة بألتمان إلى كابيتول هيل ليكلم الكونجرس والبيت الأبيض حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، وذلك هو الموضوع الذي كان نصيرا قويا له ومتفائلا به للغاية. غير أن آخرين في مجلس إدارة (أوبن آيه آي) كانت لهم شكوكهم. فحدث في مطلع نوفمبر 2022 أن أطيح بألتمان من الرئاسة التنفيذية مع بحث المجلس عن خلف له. تسبب الخبر في موجات صدمة في عالم صناعة الذكاء الاصطناعي ومطالبات من البعض بإعادة ألتمان إلى منصبه. بل إن أعضاء في مجلس الإدارة ممن صوتوا لخروجه بدأوا يتشككون في قرارهم.

وفي غضون أقل من أسبوع، أعيد ألتمان إلى وظيفته وطرأ تغير كبير على مجلس الإدارة. وقارن بعض المحللين الواقعة بالإطاحة سنة 1985 بستيف جوبز من الرئاسة التنفيذية ثم إعادته في عام 1997. غير أن طرد ألتمان لم تكن له علاقة بقراراته الاقتصادية. فقد قالت سارة كريبس ـ مديرة معهد السياسة التكنولوجية في جامعة كورنيل ـ لفوكس (Vox) إن ألتمان ومساعده جريج بروكمان في ما يبدو «رأيا أن الذكاء الاصطناعي المتسارع يمكن أن يحقق الأفضل للإنسانية». وكان لمجلس الإدارة القديمة رأي آخر هو «أن وتيرة التقدم أسرع كثيرا مما ينبغي وقد تهدر الأمن والثقة» فاستعملوا المكابح بأن طردوا ألتمان.

وتشير إعادة ألتمان في منصبه إلى أن غالبية مجلس الإدارة قد غيروا رأيهم بشأن ألتمان ومستقبل الذكاء الاصطناعي. فكانت عودة ألتمان رسالة واضحة إلى المتفائلين بالذكاء الاصطناعي، في الوقت الراهن على الأقل، مفادها أننا عازمون على القبول بمخاطرة الذكاء الاصطناعي عسى أن نجني ثماره.

من المتفائلين بالذكاء الاصطناعي أيضا ليزا سو، الرئيس التنفيذي لأمريكان ميكرو ديفايسز (AMD)، وكانت هذه الشركة من رواد المبتكرين في قطاع أشباه الموصلات وهي من أسباب تسمية وادي السليكون باسمه. غير أنه في الوقت الذي حظيت فيه أمريكان ميكرو ديفايسز بسوق ثابت نسبيا في مجال رقائق الألعاب في العقد الأول من القرن الحالي، فقد طغت عليها في السوق شركات من قبيل TSMC وإنتل وكوالكوم ونيفيديا. حتى باتت على شفا الإفلاس في 2014. ثم جاءت ليزا. فأفضت قيادتها إلى جيل جديد من المعالجات المتقدمة لزبائن الشركة هي معالجات رايزنRyzen ، وبلغ ذلك ذروته بإطلاق الشركة شريحة MI300X في نوفمبر الماضي. قال سو إن الشريحة الجديدة هي «مسرِّع الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدما في الصناعة»، وقد جاء ذلك خلال كلمتها في فعالية أقيمت يوم السادس من أكتوبر في سان خوسيه بكاليفورنيا.

كانت تلك الشريحة تستهدف مباشرة نيفيديا رائدة صناعة رقائق الذكاء الاصطناعي. وقد ركزت كلمة سو كلها على تفوق شريحة MI300X على شريحة H100 التي تنتجها نيفيديا وتستعملها شركات من قبيل أمازون وميتا وميكروسوفت وجوجل في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي لديها.

يمثل الانتقال إلى شرائح الذكاء الاصطناعي خطوة جيدة لأمريكان ميكرو ديفايسز نظرا لكون شرائحها هي أنسب الشرائح اللازمة للذكاء الاصطناعي. خلافا لوحدات معالجة الكمبيوتر CPUs، تأتي وحدات معالجة الصور GPUs بآلاف من الأنوية التي تسرع التعلم الآلي وعمليات التدرب التي تقع في صلب الذكاء الاصطناعي التوليدي.

تؤدي وحدات معالجة الرسوم دورا في تطوير وصقل خوارزميات الذكاء الاصطناعي. وثمة مجموعة أخرى من الشرائح، وهي صفائف البوابات القابلة للبرمجة ميدانيا (FPGAs)، وهذه تطبق خوارزميات الذكاء الاصطناعي على بيانات العالم الحقيقي ومدخلاته لحل مشكلات محددة. وبعد تصنيعها بهدف أداء مهام الكمبيوتر المتخصصة تمكن برمجة صفائف البوابات القابلة للبرمجة ميدانيا في الميدان.

تحتوي شرائح MI300X من إنتاج شركة أمريكان ميكرو ديفايسز على كلتا الوحدتين، متضمنة دوائر التطبيقات المتكاملة (ASICs)وهي متخصصة في الذكاء الاصطناعي. وتتوقع سو أن تحقق مبيعات الشريحة الجديدة مليار دولار بحلول منتصف 2024 (وسوف تخدم MI300A سوق الحوسبة الفائقة).

وتأمين ذلك السوق سوف يعني الظفر بكبار المشترين من أمثال ميكروسوفت وميتا. وقد حضرت كلتا الشركتين حفل إطلاق الشريحة، وكذلك شركة (أوبن آيه آي) التي سوف تستعمل شريحة أمريكان ميكرو ديفايسز في أحدث نسخة من برنامجها تريتون للذكاء الاصطناعي. ومهما يحدث للذكاء الاصطناعي بوصفه تكنولوجيا، فإن التنافس على تقديم سبل زيادته سرعةً ورخصَا وكفاءة سوف يكون أشرس من ذي قبل، بفضل ليزا سو.

ولقد كان ما يحدث للذكاء الاصطناعي بوصفه تكنولوجيا هو الشغل الشاغل للشخص الثالث في قائمتي لثوريي الذكاء الاصطناعي وأشد الثلاثة إدهاشا. واسمه هنري كيسنجر. وأغلب الناس يعرفونه وزيرا أسطوريا للخارجية الأمريكية في إدارة ريتشارد نيكسن، وأنه الذي هندس الانفتاح على الصين سنة 1971 والذي أنقذ إسرائيل من الدمار في حرب السادس من أكتوبر سنة 1973. ولكن كيسنجر افتتن في نهاية حياته بإمكانيات الذكاء الاصطناعي بوصفه تكنولوجيا قادرة على التغيير. وقد اشترك هو ومؤسس جوجل الشريك إريك شميدت في تأليف كتاب «عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبلنا البشري» الذي استكشف الكثير من الاحتمالات في عالم خاضع للذكاء الاصطناعي، ومنها تطبيقه في الأسلحة الفتاكة والإرهاب والرعاية الصحية.

منح ذلك الكتاب للشعب الأمريكي النظرة الأولى إلى أخطار الذكاء الاصطناعي المحتملة التي تمثلها الآلات القادرة على معالجة المعلومات بسرعة تفوق البشر وقد تحل محلهم في كثير من الوظائف والمهن، وتصبح أرقى من البشر في المستقبل البعيد. ولقد كان المقال الذي كتبته عن الكتاب عند صدوره شديد الانتقاد، إذ رأيت أن رؤيته لمخاطر الذكاء الاصطناعي الجامح كانت مغالية، وأن حلوله (من قبيل الاتفاقات الدولية الشبيهة باتفاقات الأسلحة النووية الدولية) غير مدروسة جيدا.

غير أن هذا الخلاف الأيديولوجي لم يحل دون تنامي زمالتنا حتى وفاته (وقد كان يخطط لكتاب جديد في الذكاء الاصطناعي) ولم ينل من احترامي لعزمه إثارة مواضيع مهمة ووجودية بشأن مستقبل الذكاء الاصطناعي بوصفه تكنولوجيا. ومثلما كتب كيسنجر فإن «ظهور الذكاء الاصطناعي، بقدرته على التعلم ومعالجة المعلومات بطرق لا يستطيعها العقل البشري منفردا، قد تؤدي إلى التقدم في أسئلة ثبت أنها تتجاوز قدرتنا على إجابتها...لكن النجاح سوف ينتج أسئلة جديدة». لم يكن كيسنجر عالما أو مهندسا. ولكنه تجاسر على التساؤل لا عما نريد أن نفعله بالذكاء الاصطناعي وحسب، وإنما أيضا عن السبب الذي يجعلنا راغبين فيه أصلا. ومن أوجه معينة، يجعله ذلك في مثل أهمية صانعي الذكاء الاصطناعي الأمريكي في 2024 سام ألتمان وليزا سو.

آرثر هيرمان مدير مبادرة تحالف الكوانتم في معهد هدسن وكبير زملاء المعهد.

عن ناشونال إنتريست