الصيرة تحكي...ملحمة نضال العمانيين ضد البرتغال
اقتران الأدب بالتاريخ ليس بحديث، ولكنه ارتباط أزلي، فالتاريخ يقدم المادة التي يعتبرها المبدع مصدرا ملهما له، ينسج من خلالها قصته المستوحاة من الاحداث التاريخية. وهناك الكثير من الأعمال الإبداعية التي تناقش التاريخ لا تزال خالدة حتى وقتنا الراهن.
عندما نتحدث عن الرواية فإنه يتبادر للأذهان الجانب السردي والتخيلي للأحداث والشخصيات، ولكن الرواية التاريخية، تلامس الحدث من خلال الوقائع الحقيقية، المختزلة في مخيلة المؤلف، لتخرج عملا إبداعيا جديدا يلامس الروح الإنسانية. وتُعد الرواية "تاريخ متخيّل داخل التاريخ الموضوعي" ـ ويمكن تلمس الخيط الرفيع الذي يقودنا إلى عالم الرواية "عندما يمتزج مع التاريخ ليصنع عالما متفردا يقوم على السرد الذي يرتكز على عناصر ثلاثة، مثل: الإنسان والمكان والزمان".
وجاء على لسان مؤلف رواية (الصيرة تحكي) للدكتور سعيد السيابي، الصادرة عن دار اللبان للنشر:" التاريخ لا يكبته إلا المنتصر؛ لما يجده من فخر، أما الموجوعون بالهزيمة فيدارون ما حدث، بانتظار أن الزمن يداوي الجراح، ويمحو أثر السكين، رغم غورها في الجسد الحي". .
وفي رواية (الصيرة.. تحكي) نجد الحدث يمزج بين الماضي والحاضر، ممتطيا سرج آلة الزمن ليعرج إلى نضال العمانيين في القرن الخامس عشر، عندما غزا قراصنة البرتغال سواحل السلطنة: "أكثر مما شغلتني الفترة البرتغالية في بحر العرب خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر". وخلال تلك الحقبة، أصبحت (قريات) معقلا للمستعمر البرتقالي، عاث فيها فسادا، واستشهد الكثير من أهالي الولاية دفاعا عن الوطن. ومن الآثار التي خلفها الاستعمار البرتغالي (الصيرة) التي أصبحت شاهدا على ذلك الاحتلال القادم من وراء البحار. عندما حملت أمواج البحر هؤلاء الغزاة إلى شواطئ عمان، كما حملتهم إلى سواحل إفريقيا. وبدت عمان مستهدفة لانفتاحها على الخليج العربي والمحيط الهندي.
.
.
البحث عن "وثيقة تاريخية"
.
.
تمحورت احداث الرواية حول شخصية (طالب الدكتوراة) المهتم بمادة التاريخ منذ المراحل الأولى من عمره: "قبل أن أغادر منتصف العقد الثاني من عمري بدأ شغفي بالتاريخ، محفوفا بتشجيع معلمي في المرحلة الإعدادية للمضي في هذا المبتغى".
وعندما وصل إلى مرحلة الدكتوراة فإن شغفه زاد لدراسة التاريخ وبالتحديد تاريخ ولاية قريات، وكأن أمامه كنز عظيم وجب عليه أن ينبش في أسراره الدفينة، المرتبطة بصراع العمانيين مع البرتغاليين، الذي استمر لسنوات عديدة، تمكن الغزاة خلاله من السيطرة على نطاق كبير من السواحل العمانية.
استوقف بطل القصة هذا التاريخ العظيم، وبدأ يبحث في مكوناته الدفينة، وقضى سنوات في إعداد اطروحته، وكرس نفسه للدراسة والبحث عن مصادر تعينه على استكمال دراسته : "مراجع تاريخية تتناول الوجود البرتغالي في المحيط الهندي، وبحر عمان، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر" .
تفردت الشخصية المحورية بالتحكم في لجام الحدث الروائي، متحدثة بلسان المؤلف، بينما بقية الشخصيات والأحداث ظلت تدور في لج محيطها الواسع. بدت أحداث الرواية تلاحق طالب الدكتوراة، الباحث عن وثائق تاريخية تتعلق بالحرب بين عمان والبرتغال قديما.
وعندما لم يجد غايته، فإنه قرر الرحيل وزيارة البرتغال، والالتقاء بالبروفيسورة المشرفة على بحثه. وبعد وصوله إلى البرتغال، اتضح أن هناك فرقا بين المعلومات التي عرفها عن البرتغاليين، وعن زيارته للبرتغال المعاصرة: "ما سر ذلك الحلم الجديد الذي ترسخ لدى البرتغاليين، بما غير توجههم السياسي من الانعزال إلى نهضة أمة، وطموحاتهم الكبيرة بأن يكونوا أباطرة العالم، وتكوين إمبراطورية ما وراء البحار البرتغالية".
و دار حديث جدلي بين بطل الرواية وأستاذته في مادة التاريخ البرتغالي حول أسباب الحروب التي تكمن في البُعد الديني. وإن هدف الفتوحات الإسلامية كان نشر الدين الإسلامي، وبالمثل فإن البرتغاليين كان هدفهم نشر الدين المسيحي: "دعني أقاطعك مرة أخرى، وكانوا يهدفون لنشر الدين الإسلامي، ألا ترغب في إكمال ذلك؟ حسنا، ونحن نهدف لنشر الدين المسيحي". فضلا عن ذلك، فقد أكد المؤلف نفس الفكرة عندما تحدث عن مطامع المحتل البرتغالي لفرض السيطرة على المناطق الاستراتيجية التجارية في البحار والسواحل. وعمد رجال الدين البرتغاليون إلى شحذ همم الشعب للخوض الحروب، معتبرين ذلك غاية دينية من أجل الصليب. وامتدت أذرع البرتغاليين إلى إفريقيا والهند وسواحل الخليج العربي.
واستطرد الحوار بين الطالب وأستاذته لمناقشة الغزو البرتغالي لعمان ، واحتلال البرتغاليين لبعض المناطق الساحلية، ومنها ولاية قريات: "رياح أتت بسفن البرتغاليين، وحملتهم على كفوفها، وأوصلتهم بعد أن تجاوزت مدينة قلهات لساحل قريات"، وتحدث المؤلف السيابي على لسان بطله واصفا الاحداث التي وقعت عند السواحل: "حدث في قلهات من مذابح وتنكيل ما طارت به الأخبار، وكان على قرى قريات، على امتدادها سهلا وساحلا".
.
.
"الزمانكية" توثق الحدث السردي
.
.
توالت سردية الحدث لوصف مواقف بطل القصة، والكشف عن ولع المؤلف السيابي بتاريخ وطنه، مما دفعه لكتابة رواية تاريخية، مقترنة بالزمان والمكان، مع وجود نقلات للأحداث بين الماضي والحاضر. ويرى (ميخائيل باختين) " أن العلاقة الزمانيكة حتمية في النقد الأدبي تسعى إلى تأكيد وقوع الفعل، ويعد الزمن البُعد الرابع للمكان. وتكمن أشكال هذه المفردة المركبة في صورها المختلفة التي تجسد الزمان والمكان ".
ولقد اقترن الزمان والمكان بأحداث الرواية، منذ البداية من خلال عنوان الرواية (الصيرة تحكي). وتوالى بعد ذلك ذكر الأماكن المختلفة: (البرتغال، عمان، قريات، الصيرة)، مع اقترانها بزمن الأحداث التي وقعت بين عامي 1506 إلى 1648 للميلاد. وبدت (الصيرة) بمثابة الأرضية التي انطلقت منها الاحداث ، ثم عادت إليها فيما بعد: " انظري، الصيرة التي اخبرتك أنها تحكي عما حدث، وستبقي شاهدة على سيحدث"، "الصيرة بدأت غريبة من على بعد".
واتسعت دائرة الحدث التاريخي في مخيلة المؤلف، لتصبح ولاية قريات محورا للأحداث، لكونها ظلت معقلا للمستعمر لسنوات عديدة، لذا ورد ذكرها مرارا وتكرارا، لارتباطها الوثيق بالحدث التاريخي، الذي انطلق منه المؤلف ليحلق عبر القارات: "يشكل التجمع الكبير لبيوت الأهالي على الشاطئ المطل على بحر عمان جوهرة قريات النابضة بالحياة" . "هزم أهل قريات في معركة استعادة الساحل " ، " التاريخ العريق لقريات، قلوب الغزاة" ، "أرض قريات تنعكس فيها زرقة البحر" .
يظل التاريخ المعين الذي لا ينفد، ينسج المبدع من خلاله مادة إبداعية تعكس روح الإنسان وإرثه التاريخي، وتصبح عملا إنسانيا قابلا للنقاش والانتقاد والدراسة، مع إضفاء صبغة عصرية من خلال اسقاط القضايا المعاصرة عليه، وبذلك ينجح المبدع في إحياء التاريخ، وتلمس أبعاده وأغواره الغائرة في القدم.
ختاما، استنطق المؤلف الدكتور سعيد السيابي في رواية (الصيرة تحكي) ، معلما تراثيا (الصيرة) الذي يُعد معلما شاهدا على الاستعمار البرتغالي للسواحل العمانية، كما أنه في هذه الرواية اشارت إلى انتصارات العمانيين عندما انتفضوا وطردوا المستعمرين بروح وطنية. إن (الصيرة ..تحكي) رواية تاريخية اتخذت من التاريخ مطية لعبور الزمن إلى القرن الخامس عشر للميلاد، ثم عادت مرة أخرى إلى الحاضر بكل فخر وسمو.
جدير بالذكر، إن الرواية احتوت على وثائق تاريخية مهمة، تؤكد تاريخ الصيرة التي تعد معلما بارزا يتحدى الزمن. وهذه دعوة للأبحار عبر أشرعة أحداث هذه الرواية وفصولها المثيرة للجدل، والتي يمكن اعتبارها وثيقة إبداعية ، رصدت تاريخ ولاية قريات اثناء الاحتلال البرتغالي لسواحل السلطنة في القرن الخامس ميلادي.
