انحسار نفوذ نخبة البنوك المركزية
كلير جونز وسام فليمنج - الفاينانشال تايمز
ترجمة - قاسم مكي
حين وقف جيروم باول لإلقاء ما سيكون بالتأكيد تقريبا آخرَ خطابٍ له أمام نخبة صناعة السياسة الاقتصادية العالمية في جاكسون هول بولاية وايومنغ الأمريكية يوم الجمعة 22 أغسطس كانت هنالك ندوة أخرى منافسة تختتم جلساتها في المنتجع الجبلي نفسه.
ترأس إريك نجل دونالد ترامب "ندوة وايومنغ للبلوكْشَين" وشارك فيها عدد من المسئولين في إدارة ترامب الى جانب رواد تقنية وعضو مجلس الشيوخ الجمهوري صاحب النفوذ تيم سكوت. امتدح المتحدثون في الندوة التي انعقدت في فندق "فور سيزونس" الفخم ما اعتقدوا أنه سيكون "الفضاء الجديد للنقود." لقد كانت تذكيرا صارخا بالصدام السياسي والفكري والثقافي الذي يواجهه البنك المركزي الأمريكي الآن.
رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي ومجموعة الخبراء الدوليين الذين اجتمعوا في فندق جاكسون ليك لودج الريفي، في نظر الرئيس دونالد ترامب، هم بالضبط الحرس القديم الذي ينوي إطاحته.
ففيما تتبنى إدارة ترامب في حماس الأصول الرقمية وإزالة القيود الإجرائية تشن في الوقت ذاته هجوما غير مسبوق على قواعد النظام التقليدي لصنع السياسات في الولايات المتحدة. فالرئيس تحت شعار تعزيز النمو يهدد بإقالة باول ومسؤولين آخرين من كبار مسئولي الاحتياطي الفيدرالي في مسعى منه للحد من استقلال البنك المركزي الذي دَعَمَ قواعد أمريكا الاقتصادية لأكثر من نصف قرن.
يترافق هذا مع الانقلاب الذي قام به البيت الأبيض في مكتب إحصاءات العمل وزعزع الثقة في قدسية البيانات الاقتصادية عن أقوى بلد في العالم.
الاجتماعات التي ظلت تعقد في جاكسون هول على خلفية جبال وايومنغ الوعرة خلال العقود القليلة الماضية جسدت نفوذ ومكانة مسؤولي البنوك المركزية بمناظراتهم حول آلية انتقال السياسة النقدية إلى الاقتصاد الكلي والتيسير الكمي والقوى المحركة للتضخم.
لكن الاقتصاديين الذين أنصتوا لخطاب باول في فندق جاكسون ليك لودج كانوا يعلمون أن نفوذ تكنوقراط الاقتصاد والبنوك المركزية مهدد بتراجع مثير. يقول جلين هوبارد رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في عهد إدارة جورج دبليو بوش: "حين أتحدث إلى الاقتصاديين يبدو عليهم الاكتئاب". ويستشهد بعدم الرضى من الخبراء وسط أمريكيين عديدين. هؤلاء الخبراء حسب اعتقاد هوبارد الأستاذ حاليا بجامعة كولومبيا "يعلمون أن السياسة الاقتصادية فقدت تواصلها المهم جدا مع الناس". ويضيف: "أخشى إنهم إذا لم يتواصلوا مع الناس سيتفاقم هذا الهياج الشعبوي".
في خطابه المذكور والذي سبقه تصفيق طويل، صرح جيروم باول بشكل قاطع فيما كان يشير إلى احتمال إجراء المزيد من التخفيضات في سعر الفائدة إنه وزملاءه سيتخذون قرارتهم على أساس الأدلة الاقتصادية "فقط".
هجوم من كل الجهات
لكن باول أيضا أقرَّ بأثر فترة التضخم على الأمريكيين. قال: "السنوات الخمس الماضية كانت تذكيرا مؤلما بالمشقة التي فرضها ارتفاع التضخم وخصوصا على أولئك الأقل قدرة على مقابلة التكاليف المتزايدة لضروريات المعيشة".
الرهانات واضحة. ففيما كانت الوفود تتجه غربا (نحو جاكسون هول) اتضح أن وزارة العدل كانت قد طلبت من باول إقالة ليزا كوك زميلته في مجلس محافظي بنك الاحتياطي. وهذا إجراء ليست لدى رئيس البنك لا السلطة أو الرغبة في اتخاذه.
ويوم الجمعة قبل الماضي قال ترامب أيضا أن كوك التي كانت وقتها في جاكسون هول يجب إقالتها. ردت كوك بأنها لن تخضع إلى "تنمُّر" الرئيس ودفعها إلى الاستقالة بزعم "الغش" في رهن عقاري.
صدرت هذه الاتهامات عن بيل بولتي مسؤول الإسكان بإدارة ترامب والناقد اللدود لبنك الاحتياطي الفيدرالي. الهجوم على كوك جاء بعد إقالة مفوضة مكتب إحصاءات العمل إريكا مكينتارفر هذا الشهر عقب مزاعم من ترامب دون أساس بتزويرها بيانات التوظيف لمصلحة الديموقراطيين المعارضين.
أوضح جيروم باول الذي نعته ترامب بالغباء وضعف القدرات أنه سيقضي فترة رئاسته للبنك كاملة على الرغم من تهديدات ترامب المتكررة بإلقائه من النافذة. لكن المخاوف في الأسواق تتفشى من تكرار ترامب ما فعله في مكتب إحصاءات العمل وتسمية مُوالٍ سياسيا له رئيسا لأهم البنوك المركزية في العالم بعد انتهاء رئاسة باول في مايو 2026.
تقول كلوديا جولدن أستاذة الاقتصاد بجامعة هارفارد: "هنالك جبهات كثيرة جدا عليك أن تقاتل فيها. فأنت تتعرض للهجوم من كل الجوانب".
فكرة استقلال البنك المركزي
مؤتمر جاكسون هول يُعقد في موقعه الحالي منذ أوائل الثمانينيات عندما كان مسؤولو فرع بنك الاحتياطي الفيدرالي في كنساس سيتي يحاولون إغراء رئيس البنك وقتها بول فولكر لحضور ندوته الاقتصادية. وكان الطُّعْم (الذي أغروه به) استضافة الندوة في مكان مشهور بصيد السمك بالطعم الصناعي وهو إحدى هوايات فولكر.
لم تقتصر المناظرات في جاكسون هول على تشكيل المشهد الاقتصادي والمالي العالمي ولكنها أيضا أصبحت رمزا للمكانة التي احتلها مسؤولو البنوك المركزية خلال الأربعة عقود الماضية.
ساهم فولكر في وضع الأسس التي تمنح بموجبها الحكومات حول العالم قدرا أكبر من الاستقلال للتكنوقراط الاقتصاديين بإثباته أن البنك المركزي المستقل يمكنه السيطرة على التضخم في الولايات المتحدة بعد ارتفاع الأسعار برقمين عشريين (أكثر من 9%).
إلى ذلك، أوجدت معاهدة ماسترخت في عام 1992 الإطار اللازم لتسليم السيطرة على السياسة النقدية إلى البنك المركزي الأوروبي بنهاية العقد. وفي عام 1997 منحت أخيرا حكومة توني بلير العمالية الجديدة بنكَ إنجلترا الذي كان وقتها مؤسسة تجاوز عمرها ثلاثة قرون حريةَ وضعِ أسعار الفائدة بدون تدخل سياسي.
شكّل استهداف التضخم الأساس الفكري لاستقلال البنك المركزي. وهو نظام ابتدعته نيوزيلندا في التسعينيات وتعهد بموجبه واضعو أسعار الفائدة عمل كل ما يلزم لبلوغ أهدافهم السعرية.
انحسار نفوذ السياسة المالية جعل واضعي السياسة النقدية يشرفون على أهم أداة لتوجيه الاقتصاد الكلي وهي أسعار الفائدة. وتحول آلان جرينسبان خليفة فولكر لفترة إلى أيقونة وطنية.
تقول كارين دينان أستاذة الاقتصاد بجامعة هارفارد: "هذا لا يعني القول إن كل شيء كان مثاليا. لكن حتى النقاد يلزمهم الإقرار بأن صدقية (البنك المركزي) التي حافظت على استقرار (عدم تقلُّب) توقعات التضخم حققت نتائج أفضل كثيرا مما لو كانت الأمور خلاف ذلك".
ضغوط قديمة
الضغوط على الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية النظيرة ظلت تختمر لسنوات ولم تبدأ مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
اتهم النقادُ الاحتياطي الفيدرالي إبان رئاسة جرينسبان بالفشل في تقدير الاختلالات الخطرة التي كانت تتراكم في النظام المصرفي الأمريكي وانفجرت في الأزمة المالية بعد تقاعده.
راجورام راجان، الأكاديمي وقتها بجامعة شيكاغو، كان أحد أولئك الاقتصاديين الذين حذروا من الأخطار الكامنة في ورقة نشرت عام 2005 قبل فترة قصيرة من تقاعد جرينسبان من رئاسة البنك. يقول راجان الذي عاد الآن إلى شيكاغو بعد قضائه فترة تولَّى خلالها رئاسة البنك المركزي الهندي أن الأزمة المالية أكدت خطورة "التفكير الجماعي" لمسؤولي البنوك المركزية. فهنالك حسب راجان نوع معين من البيروقراطية التي ترسَخ ولسانُ حالها يقول: "هذه هي طريقة تفكيرنا. دعونا لا نقبل بوجود بديل ربما يكون أفضل".
مؤخرا جدا كان تصاعد التضخم بعد الجائحة تجربة مخيفة لملايين الأمريكيين وزوَّد نقاد الاحتياطي الفيدرالي بذخيرة لشن المزيد من الهجمات. كما شكلت الخسائر التي تكبدتها البنوك المركزية في محاولتها خفض ميزانياتها العمومية التي تضخمت أثناء سنوات التيسير الكَمِّي هدفا سياسيا آخر لهؤلاء النقاد. وعلى الرغم من التقدم الذي حققه الفيدرالي في القضاء على التضخم خلال فترة الثمانية عشر شهرا الماضية أوضح استطلاع أجرته جالوب في أبريل أن ثقة الناس في رئيس البنك الآن قريبة من أدنى مستوى لها في أي وقت من الأوقات.
هذا الشعور واضح في وايومنغ. يقول نيت بينيت مالك شركة تيتون للصيد بالطعم الصناعي: "لا أعتقد أن أيا من هؤلاء الذين يأتون إلى المؤتمر يدركون حقا ما يواجهه أفراد الطبقة الوسطى العاديين".
بعض الذين حضروا الندوة انتقدوا سرا مسؤولي بنك الاحتياطي لعدم ندمهم على الفشل في منع نوبة التضخم التي أغرقت أمريكيين عديدين في أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة. يقول أحد هؤلاء في جاكسون هول "المحاسبة كانت قادمة. هي مستحقة ومطلوبة." لكنه استدرك قائلا "ذلك لا يعني أن هجوم إدارة ترامب (على بنك الاحتياطي) مبرر".
في اعتقاد كلوديا جولدن الفكرةُ السائدة وسط بعض الأمريكيين بأن المؤسسة الحاكمة تختلق الأكاذيب منشؤها عدم ثقة بالنُّخَب يعود إلى حقبة الثورة الأمريكية.
تقول جولدن: "أسَّسنا هذا البلد لكي يكون بلدا غير نخبوي. لقد أردنا خروج الأرستقراطية الأوروبية منه. هذه ليست أول مرة تتشكل فيها نزعة معادية للفكر في الولايات المتحدة".
في الوقت الحالي لم يثبت أن هجمات الرئيس هي "مِعوَل الهدم " الذي توقعه العديدون في أوساط النخبة الاقتصادية. فمؤشرات سوق الأسهم مستمرة في تسجيل ارتفاعات جديدة. ولا يزال جيروم باول في منصبه وانحسرت المخاوف من إقالته ايجازيا بواسطة ترامب منذ وقت مبكر في هذا العام. مع ذلك يحذر الاقتصاديون بضرورة التعامل مع التهديدات التي يشكلها ترامب بجدية تامة. لقد تعاملت السوق معها عموما بهدوء، كما يقول نيل شيرينج كبير الاقتصاديين بكابيتال ايكونوميكس. لكنه يعتقد أن هذه الهجمات (التي يشنها ترامب) على المؤسسات مخاتلة. يقول: "نحن لا نعلم مدى متانة هذه المؤسسات وإلى أي شيء ستقود هذه الضغوط".
نتيجة عكسية
حذر المشاركون في اجتماع جاكسون هول من أن دعوات ترامب للفيدرالي بإجراء خفض حاد في أسعار الفائدة إلى 1% فقط (من المستوي الحالي الذي يتراوح بين 4.25% و4.5%) ربما سيكون لها أثر معاكس لما يسعى إليه ترامب وهو توفير مئات البلايين من الدولارات للحكومة. يقول هؤلاء إذا أنت نسفت صدقية البنوك المركزية سيقود ذلك بالتأكيد تقريبا إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض طويل الأجل للحكومات والشركات والأفراد.
يقول محمود برادان رئيس قسم الاقتصاد الكلي العالمي بمعهد أموندي: "فشل الحكومات في احتواء مستويات الدين العام رغم تدني أسعار الفائدة أثناء فترة التيسير الكمي جعل من الصعب على البنك المركزي صنع السياسة النقدية." ويقول أيضا: "إذا قمنا بتعيين مسؤولين بناء على الولاء السياسي بدلا من أشخاص لديهم الخبرة الاقتصادية المطلوبة سيشكل ذلك تهديدا جوهريا لعملية صنع السياسة النقدية والتي ترتكز على أدلَّة". ويضيف: "قد لا يحقق ذلك ما يريده ترامب لأنك إذا ضحيت باستقلال البنك المركزي وتم خفض أسعار الفائدة إلى معدلات غير مبررة سيشعر المستثمرون بالقلق من التضخم وسترتفع أسعار فائدة السندات طويلة الأجل وسيبتعد الناس عن الأصول المقومة بالدولار".
يقول جاري ريتشاردسون أستاذ التاريخ الاقتصادي بجامعة كاليفورنيا: "التهديد" الذي يتعرض له استقلال البنك الفيدرالي الآن هو الأخطر منذ عهد الركود العظيم عندما كان فرانكين روزفلت رئيسا للولايات المتحدة. لكن الهيكل الحديث للفيدرالي بما في ذلك رؤساء الفروع الإقليمية للبنك يشكل قيدا على البيت الأبيض. يقول ريتشاردسون "لقد صممت مؤسسة البنك لمقاومة هذا النوع من الضغوط. ويقينا تستطيع ذلك".
تفاؤل
بعض الاقتصاديين متفائلون بنجاة استقلال صناعة السياسة النقدية الأمريكية من العاصفة (الترامبية).
يقول راجان: الولايات المتحدة ستدرك في نهاية المطاف إنها بحاجة إلى بنك مركزي للحفاظ على قدر معقول من الاستقرار لقيمة نقودها.
أما البديل فسيكون مقلقا جدا كما يقول موريس أوبستفيلد الباحث بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي والذي يعتقد أن "هذه المحاولات للتهوين من أهمية الخبرة سيظهر أثرها في النهاية في الأسواق". ويضيف: "على الرغم من أن الخبرة لا تكون دائما موفقة إلا أنها أفضل كثيرا من مسايرة ما هو ملائم سياسيا في وقتٍ ما".
