No Image
الاقتصادية

الناتج المحلي الإجمالي وحده لا يكفي لماذا؟

14 أكتوبر 2022
14 أكتوبر 2022

في يوليو تحدَّث صندوق النقد الدولي عن تطورات تزداد قتامة في الاقتصاد العالمي وناتجة عن صدمات تلقَّاها نظام أضعفته الجائحة سلفا، بعد شهرين لاحقا حذر البنك الدولي من أن العالم يزحف نحو انكماش اقتصادي في عام 2023.

الحاجة إلى أفكار جريئة

على خلفية الحرب وقيود إمدادات الغذاء والوقود والأحداث المناخية المتطرفة وتزايد اللامساواة وأعلى معدل للتضخم خلال 40عاما حان الوقت لابتداع أفكار جسورة حول كيفية تجديد اقتصاد العالم.

لسوء الحظ المفردات المستخدمة لوصف حال الاقتصاد تخاطر بدعم وترسيخ سياسات القرن العشرين المنحازة لفكرة النمو الاقتصادي والتي ساهم العديد منها في الأزمات المتعددة الحالية.

أوضح ما يكون ذلك في محاولة رئيسة وزراء بريطانيا ليز تراس تنمية اقتصاد المملكة المتحدة دون وضع حساب كافٍ لقضايا اللامساواة والرفاه واستدامة البيئة.

أليس النمو جيدا؟

عندما تستخدم أخبار الاقتصاد كلمة "النمو" فإنها عموما تشير إلى الناتج المحلي الإجمالي. يحسب هذا الناتج الإجمالي كلَّ الأموال التي ينفقها أو يتلقاها المشاركون في اقتصاد ما ويتيح طريقة لمقارنة أوضاع الاقتصادات فيما بينها على مر الزمن.

منذ ستينيات القرن الماضي كثيرا ما وضعت البلدان أهدافا لنمو الناتج المحلي الإجمالي بالنظر إلى ارتباطه بارتفاع مستويات المعيشة. الأحاديث والتقارير تستخدم بانتظام مفردات من شاكلة منتعش وقوي في مقابل ضعيف ومتراجع لوصف أداء هذا الناتج. لكنه ليس مؤشرا على الاقتصاد المستدام. وهو لا يضع بَالَا لأي آثار اجتماعية أو بيئية للسلع والخدمات التي يحسبها. كما يتعامى أيضا عن توزيع الدخل والقدرة على الحصول على الخدمات والملكية. ويتم توظيف الخشية من تدني الناتج المحلي الإجمالي كمبرر لعدم عمل أي شيء في مواجهة المهددات الوجودية مثل التغير المناخي.

الاهتمام بالناتج المحلي الإجمالي لوحده يعني أن مجتمعا يفتقر بشدة إلى المساواة ويلوِّث ويستنزف أصوله الطبيعية، على الأقل في الأجل القصير، يبدو تجسيدا لقصة نجاح.

في الحقيقة عندما يتم قبول نمو الناتج المحلي الإجمالي باعتباره شيئا جيدا في حد ذاته يصبح من الممكن استخدامه لدعم أجندة ومصالح سياسية أخرى. والإيمان بنظرية النمو الذي يفيد الجميع " حكاية ارتفاع المد سيجعل كل القوارب تطفو" يمكنه تزيين السياسات التي تهمِّش عناصر العافية الاقتصادية المهمة الأخرى مثل الإنصاف والمرونة تجاه الصدمات.

أحد الأمثلة على ذلك تركيز خطة النمو البريطانية على إصلاحات الضريبة التنازلية والتحرير ودعومات الطاقة للحفز على المزيد من الإنتاج والاستهلاك. اللغة المستخدمة في تحبيذ النمو مثيرة للاهتمام وتبدو أكثر جاذبية من تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرا على "نهاية اللامبالاة" سعيا منه إلى تهيئة المواطنين لتداعيات محدودية إمدادات الغاز وارتفاع أسعار الغذاء هذا الشتاء.

بالمقابل توظف الخشية من تدني الناتج المحلي الإجمالي كمبرر لعدم مواجهة المهددات الوجودية ولكن غير الآنيَّة مثل التغير المناخي. لقد وَسَمت حجج من هذه الشاكلة الاستقطابَ السياسي حول السياسة المناخية في الولايات المتحدة وبريطانيا.

عقب الميزانية المصغرة لرئيسة الوزراء ليز تراس دشَّن وزير الدولة الجديد لشئون الأعمال والطاقة والإستراتيجية الصناعية مراجعة للخطة البريطانية الخاصة بتصفير انبعاثات الكربون (بلوغها نقطة الحياد الكربوني) بحلول عام 2050 وذلك " لضمان أن تكون منحازة للأعمال ومحبذة للنمو.

العودة للقيم الإنسانية

الانتقادات الموجهة لاستخدام الناتج المحلي الإجمالي كمقياس للتقدم لها تاريخ طويل. لكن مؤخرا فقط تسربت إلى التيار العام لدروس الاقتصاد والحسابات القومية. يحدث هذا التحول بالنظر إلى تفكك النظام البيئي وإدراك أن الإجراءات اللازمة لمواجهة هذه الانتقادات لا يمكن تحقيقها دون عدالة اجتماعية أكبر يشار إليها عادة بعبارة الانتقال العادل.

الفشل في الوفاء بهدف اتفاقية باريس للمناخ التي وضعت حد أعلى لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية للاحترار العالمي سيؤثر بشدة على الاقتصادات حول العالم. فمع تزايد آثار التغير المناخي سيتزايد أيضا تقلب المعاملات النقدية.

ولأن التصنيفات الائتمانية للبلدان مقرونة بالمسارات التي يتخذها معدَّل دَينها إلى الناتج المحلي الإجمالي سيرفع مثل هذا العامل المزعزع من تكلفة الائتمان للبلدان الأقل تأثيرا على التغير المناخي ولكن الأكثر تأثرا به.

وكما جاء في تقرير صدر هذا العام عن شركة ديلويت، إذا استُبعِد التغير المناخي من الحسابات الاقتصادية من المرجح أن تكون النتيجة ضَعفا في عملية اتخاذ القرار وإدارة غير فاعلة للمخاطر وجهودا غير كافية إلى حد الخطر لمعالجة أزمة المناخ. هذا وتعمل الولايات المتحدة والصين وألمانيا وبلدان أخرى على تضمين مقاييس للازدهار ترتكز على النظام الإيكولوجي.

في العام الماضي قدم تقريران مهمان أقوى مرافعة حتى الآن تدعو إلى التخلي عن النظرة الضيقة في تقييم النمو. أحد التقريرين أعدته لجنتان رفيعتا المستوى شكلتها عدة حكومات وموضوعه التنوع الأحيائي والتغير المناخي. أوصى التقرير بالتحول إلى مفهوم للتقدم الاقتصادي "يوازن بين التنمية البشرية والقيم المتعددة للطبيعة من أجل نوعية حياة جيدة وفي ذات الوقت عدم تجاوز الحدود البيوفيزيائية والاجتماعية.

التقرير الآخر وهو مراجعة للحكومة البريطانية حثَّ على قياس " الثروة العامة والشاملة " بالطريقة التي تتسق مباشرة برفاه الأجيال الحالية والقادمة.

هذه الأفكار تجِد تجسدها في سياسات "مجموعة حكومات اقتصاد الرفاه" في أسكوتلندا وكاليفورنيا وأيسلندا وكوستاريكا وويلز ونيوزيلندا. (تأسست هذه المجموعة بمبادرة من أسكتلندا في 2018 وتهدف إلى مساءلة أهمية النمو الاقتصادي ومقياسه المتمثل في الناتج المحلي الإجمالي. فهدف النمو ينبغي أن يكون الرفاهية المشتركة وليس الثروة فقط وهذا يستوجب مقاييس أخرى صحية وتعليمية ونفسية إلخ – المترجم) في الأثناء تعكف حكومات الولايات المتحدة والصين وألمانيا وبلدان عديدة أخرى على إدماج مقاييس للازدهار ترتكز على النظام الإيكولوجي.

بوتان أيضا منذ فترة كرست الأولوية "للسعادة القومية الإجمالية" إلى جانب مقاييس أكثر تقليدية للنموّ.

الدعوات لجعل الرفاه أولوية سياسية في البلدان الغنية تتعاظم فيما تنادي دراسات " خفض النمو" المتزايدة بالتخلي عن فكرة النمو في الإنتاج الإجمالي والتركيز بدلا عن ذلك على المساواة والكفاية.

هذا التحول إلى قياس الأشياء التي يضفي عليها المجتمع قيمة والتقدم باتجاه ذلك بمرور الوقت هو ما يلزم عكسه بقوة في تقارير الأداء الاقتصادي

الحكي الاقتصادي

البيانات التي تصدر من المنابر الاقتصادية الكبرى مثل مجموعة السبع ومجموعة العشرين قللت مؤخرا من التركيز على كلمة النمو إلى جانب صفات من شاكلة "مستدام" و" شامل لكل لأحد" أو تحدثت عن التعافي "الأخضر" والتعافي "المنصف".

عمليا، لم ينتشر استخدام المقاييس الخاصة بهذه المفردات. يجب أن يحدث ذلك لمجابهة الاضطراب الاقتصادي الحالي وتصحيح نموذج الإنتاج والاستهلاك الأوسع نطاقا على الصعيد العالمي. إنه النموذج "الخطِّي وليس الدائري" الذي يجمع المواد الخام ثم يحولها إلى منتجات تستهلك ثم يتخلص منها كنفايات.

الاستمرار في استخدام الناتج المحلي الإجمالي كمقياس مفيد إذا تم تعديله ليعطي وزنا أكبر للمعاملات التي تضيف قيمة للمجتمع وتصون البيئة. أتاحت أهداف التنمية المستدامة نقطة بداية عامة لقياس ما له قيمة عند البشر. هنالك العديد من مقاييس حساب الثروة والرفاه القابلة للتطبيق على المستوى العالمي والتي يمكن التنسيق فيما بينها.

مثل هذه البيانات يجب إعلاء شأنها في التقارير الاقتصادية وفي المقارنات بين البلدان. بخلاف ذلك فإن الصراع بين ما نقيسه وما نهتم به سيستمر في إعادتنا إلى الأزمات.

جلادا لان زميلة أبحاث أولى وروث تاونيند زميلة أبحاث المخاطر المناخية والدبلوماسية ببرنامج البيئة والمجتمع - المعهد الملكي للشئون الدولية (شاتام هاوس)