No Image
إشراقات

النية وأثرها في قبول الأعمال

14 أغسطس 2025
14 أغسطس 2025

كتب - ماجد الندابي

عند تأدية العبادات يقف الإنسان على مفترق دقيق بين ظاهر العمل وباطنه، فالظاهر هو ما تراه العيون وتدركه الحواس، أما الباطن فهو النية، تلك البذرة الخفية التي يزرعها الإنسان في قلبه، فتثمر قبولا عند الله عز وجل، فالنية شرط ضروري لقبول الأعمال، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى»، والنية معناها القصد ومحلها القلب، وعندما تحضر هذه النية فإن القلب يكون حاضرا متوجها لله عز وجل في العمل الذي يقوم به، فهي أدعى إلى الإخلاص، لأنها روح العمل، إن صلحت صلح العمل كله، وإن فسدت فسدت ثمرته مهما بدا للناس عظيما.

ولو تأملنا أي عبادة فإن النية هي الباعث والدافع الداخلي الذي يحدد العبادة ويمنحها معناها، فلو أخذنا الصلاة على سبيل المثال فقد يصلي رجلان في صف واحد، يركعان ويسجدان في وقت واحد، لكن بينهما من البعد في الأجر ما بين السماء والأرض، لأن أحدهما أراد وجه الله، والآخر أراد أن يراه الناس مصليا حاضرا معهم في المسجد، فلذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك فإن الله لا ينظر إلى صور الأعمال، بل إلى قلوب العاملين، فكل عمل لا يبدأه المسلم بنية وقصد حاضر في القلب فإن هذا العمل ميت لا روح فيه.

ومن أعظم أسرار النية أنها تحول الأفعال المألوفة إلى عبادات، فالنوم يصبح عبادة إذا كان بنية الاستعانة به على قيام الليل، والأكل يصبح قربة إذا كان بنية حفظ الجسد الذي أمرنا الله بحفظه لعمران الأرض ولخدمة الدين، والابتسامة تصبح صدقة إذا قصد بها إدخال السرور على قلب مسلم، وبهذا المعنى، يمكن للمؤمن أن يعيش حياته كلها في عبادة دائمة إذا أحسن النية.

وإن لم يأت لفظ النية صريحا في القرآن الكريم، فإن المعنى الذي تدور حوله قد تكرر في آيات كثيرة، ترسم للقلب المؤمن طريق الإخلاص وتحذره من أن يلتفت بعمله لغير الله، ففي قوله تعالى: «وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ» ، نلمس جوهر العبودية الخالصة التي لا يداخلها رياء ولا طلب لمحمدة الناس، وفي آية أخرى يبين سبحانه مآل من جعل عمله للدنيا فقال تعالى: «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ»، لتكون هذه الكلمات حرسا على القلب من أن يبيع الآخرة بعرض زائل من الحياة الدنيا، وحينما يقول جل شأنه: « فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا»، فإنها دعوة صريحة لقطع كل خيط يربط العمل بنظر الناس، وتوجيه البوصلة إلى الله وحده، بل إن القرآن يقدم لنا صورا حية من صدق النية، كما في وصف الأبرار: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا»، حيث إن هذا العمل خالص لوجه الله، فلا ينتظرون من البشر جزاء أو شكرا على أعمالهم، ويؤكد في موضع آخر أن النفقة لا تصير قربة إلا إذا كانت خالصة بقوله: «وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله»، وهكذا نجد أن الخطاب القرآني قد أحاط معنى النية بسياج من التوجيهات والتحذيرات، فجعلها المعيار الخفي الذي توزن به الأعمال، والروح التي تمنحها الحياة والقبول.

والنية الصادقة قادرة على أن ترفع الأجر أضعافا مضاعفة، فقد ينوي المرء عملا صالحا ثم يحال بينه وبين أداء هذا العمل، فيكتب الله له أجره كاملا وفي المقابل قد يعمل الإنسان عملا ظاهرا صالحا، لكن نيته الفاسدة تحبطه، فلا يبقى له منه إلا التعب، والرياء هو السم الذي يتسلل إلى النية فيفسدها، فهو من الشرك الأصغر الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يجعل العمل لغير الله، فالمؤمن الصادق يراقب قلبه قبل مراقبة جوارحه، ويحرص أن يكون باطنه أنقى من ظاهره، وإن دخل عليه الشيطان ليفسد عليه نيته فعليه أن يستحضر في قلبه الدعاء الذي أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله حينما قال: «الشركُ فيكم أخفى من دبيبِ النملِ، وسأدلُك على شيءٍ إذا فعلتَه أذْهَبَ عنك صَغارُ الشركِ وكبارُه، تقول: اللهمَّ إني أعوذُ بك أنْ أُشرِكَ بك وأنا أعلمُ، وأستغفرُك لما لا أعلمُ»، فهذا الدعاء يكنس ما يشوب القلب من شرك خفي ويجعل النية صادقة لله خالصة له وذلك باستحضار هذا الدعاء.

ولأن النية بهذا القدر من الأهمية لقبول الأعمال عند الله عز وجل، فإن فساد النية هي فساد لإخلاص التوجه للعزيز الحكيم، وهذا أمر خطير، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار» ولو تأملنا هذا الحديث المخيف لعلمنا الأهمية التي عليها النية والتوجه القلبي المخلص لله عز وجل، فهذه العبادات الثلاث التي ذكرها الحديث هي من أعظم العبادات التي يقوم بها المسلم، ولكن لفساد نيتها، ودخول الرياء فيها أصبحت وبالا ونكالا على أصحابها، وقد بذلوا فيها أنفسهم وأرواحهم وأموالهم، ولكن الله لم يتقبلها، بل جعل أصحابها في طليعة من تسعر بهم نار جهنم يوم القيامة.