النعمة في القرآن الكريم
التأمل في عظيم ما خلق الله وما أسبغه الله علينا من النعم ظاهرة وباطنة، هو جزء من العبادة التي أمر الله بها عباده، فنجد القرآن الكريم ناضحا بالحث على النظر والتأمل فيما سخّره الله لهذا الإنسان في السماء والأرض، بل وفي نفس الإنسان ذاته، ولذلك ذكرت الآيات الكريمات كثيرا من هذه النعم، وأولها أن هدى الله الإنسان إلى هذا الدين، فنجد في سورة الفاتحة التي يقرؤها المسلم في كل صلواته (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) فمن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم؟ نجد في كتاب الله تفسيرا وذكرا لأولئك الذين أنعم الله عليهم حيث قال الله في سورة النساء (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا)؛ فالذين أنعم الله عليهم هم الطائعون لله والرسول فهم يدخلون في جملة المنعم عليهم من الأنبياء والصديقين والشهداء.
ونعِمُ الله كثيرة لا تعد ولا تحصى، وقد أكد القرآن هذه الحقيقة في سورة النحل (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)، ولو أتينا إلى أحوال الأقوام السابقين مع النعم، لرأينا سنن الله في خلقه وكيف أن كفران النعمة يورث العقاب من الله تعالى، وهذا ما حدث لبني إسرائيل؛ هؤلاء القوم الذين أنعم الله عليهم بنعم لم ينعم بها على أحد غيرهم، ولكنهم أعرضوا وكفروا وجحدوا فأنزل الله عليهم شديد عقابه وعذابه، فنجد سيدنا موسى عليه السلام يذكرهم بتلك النعم لشكرها؛ ففي سورة المائدة: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ)، فقد جعل الله فيهم أنبياء بعضهم من بعض، وجعلهم ملوكا وآتاهم من النعم، منها المائدة التي كانت تنزل عليهم من السماء فكفروا بها، كما طلبوا الذي هو أدنى منها، فغضب الله عليهم وعذبهم بذنوبهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وقال الله على لسان سيدنا موسى في السورة نفسها (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، ومن نعم الله عليهم أن أنجاهم من فرعون وبطشه وجبروته وظلمه لهم فقال لهم موسى عليه السلام في سورة إبراهيم: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ).
وقد قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يذكّر اليهود بالنعم التي أنعمها عليهم لعلهم يؤمنون بدعوة الحق فقال تعالى في سورة البقرة (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)، وقال الله تعالى في السورة نفسها (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
كما ذكر الله كفار قريش وكيف أنهم كفروا بأنعم الله فكان جزاء من قتل منهم على شركه نار جهنم وذلك بعد معركة بدر فقال تعالى في سورة إبراهيم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ). وإذا أتينا إلى الأقوام الآخرين من الأمم السابقة لوجدنا منهم الشاكرين الذاكرين لأنعم الله وأبرزهم إبراهيم الخليل عليه السلام الذي امتدحه الله وأثنى عليه بأنه كان من الشاكرين لأنعم الله فقال تعالى مخبرا عنه في سورة النحل (شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، ومنهم سليمان عليه السلام فبعد أن سمع النملة التي حذرت قومها وطلبت منهم الدخول في مساكنهم لكي لا يحطمها سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فعندما سمعها سليمان عليه السلام أعجب بكلامها وكيف أنها نادت النمل، وأمرتهم وحذرتهم واعتذرت عن سليمان وجنوده بأنهم لا يشعرون، وكذلك استشعر نعمة الله عليه كيف جعله يفهم منطق الحيوانات والحشرات والطيور، فقال شاكرا لله معترفا بعظيم فضله وأنه يسأل ربه أن يعينه في شكران هذه النعم التي وهبها الله له ولوالديه فقال في سورة النمل (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)، وكان تدارك الله لسيدنا يونس عليه السلام نعمة ذكرها ربنا عز وجل فقال تعالى في سورة القلم: (لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ) .
ومن جهة أخرى، نجد أن ربنا عز وجل يذكر الطبيعة البشرية وما يغلب عليها عند النعمة وعند سلبها ووقوع الضر، فعند وجود النعمة نجده يعرض عن ربه ويجحد نعمته، فقال تعالى في سورة الإسراء (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا)، وأكد الله تعالى على هذا الأمر في سورة الزمر بقوله (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)، وجاء في سورة النحل (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)، وذكر ربنا في سورة الزمر (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
كما ذكر الله أنه لا يبدل نعمته التي ينعمها على عباده حتى يبدلوا ويغيروا ما بأنفسهم، فعندئذ تسلب النعمة ويحل الغضب، فقال تعالى في سورة الأنفال (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وقد ضرب الله لهذا الأمر مثلا لتلك القرية الآمنة المطمئنة التي يأتيها رزقها رغدا فكفرت بأنعم الله فانظروا كيف كان جزاؤها كما ذكرته الآية الكريمة في سورة النحل (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ).
