القلوب في القرآن الكريم
المتأمل في كتاب الله يجده اولى عناية خاصة بإصلاح بواطن الناس واستعراض ما خفي من أحوالهم، فنجده استظهر في آياته أحوال القلوب وأوصافها، فذكرها بصيغة الجمع في ما يزيد عن 100 آية بينما ذكر لفظة القلب منفردة بما يزيد عن خمسين آية، وفي ذلك دلالة واضحة على جليل لالاهتمام، لما لهذه المضغة من صلاح النفس والجسد، كما ورد ذلك في الحديث النبوي المتفق عليه عن الرسول صلى الله عليه وسلـم حيث قال: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
فهو أساس الصلاح والفساد، وهنالك أحوال كثيرة تختلج في هذه القلوب وقد ذكر الله أوصافها وبين سجاياها، حتى أن الله جعل المؤاخذة على الإنسان في أيمانه بما تكسبه القلوب وليس بلغو اللسان فقال تعالى في سورة البقرة:"لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ".
ولو استعرضنا اوصاف القلوب التي أطلقها الله على الذين ابتعدوا عن طريق الهداية وركبوا سبل الضلالة لوجدنا ان أوصافها تنطبق على أحوالهم، ووتناسب مع كبرهم وإعراضهم عن منهج ربهم، فنجدهم يستمعون القرآن ولكن لكبرهم وعتوهم نجدهم يرفضون الخضوع له فقال تعالى مخبرا عن صناديد قريش في سورة الأنعام: "وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ" فقد ورد عن ابن عباس في التفسير الوسيط قال: إن أبا سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف. استمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلـم وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته ما أدرى ما يقول، إلا أنى أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فأنزل الله هذه الآية. والأكنة: جمع كنان كغطاء وأغطية."
وقال الله تعالى في المعنى نفسه في سورة الإسراء: "وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً".
فهاؤلاء من الذين ختم الله على قلوبهم وطبع عليها من كثرة ما حاك بها وغطاها وغلفها من الشرك والكفر والظلم والبغي فكان مآل ذلك أن طبع الله عليها وطردها من رحمته، ومصيرها جهنم وبئس المصير فقال تعالى في سورة الأعراف: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" فكثير من الجن والإنس وهما الجنسان الذين أمرهم الله بعبادته ووهبهم أدوات التمييز والتفكير والوسائل التي من خلالها يمكن أن يصلوا إلى ما أمرهم الله به، ولكنهم لم يستخدموها كما خلقت من أجله، فهم لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لاي يبصرون بها طرق الهداية، وآذان لا يستمعون بها إلى إلى أصوات الهدى، فهم بتعطيلهم لما وهبه الله لهم، يكونون في نفس المرتبة مع الأنعام لما يتماثل من الصفاة المذكورة، بل هم أظل من تلك الأنعام لأنها غير مميزة وهم وهبهم الله العقول أناط إليهم التكليف.
فهم مختوم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فقال تعالى في سورة البقرة: "خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ"
وقال في سورة الأنعام: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ".
والطبع على القلب إغلاقه فقال تعالى في سورة الأعراف: "أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ" وقال في سورة يونس: "ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ.
ونجد أن بني إسرائيل علموا بضلالهم وأن أنوار الهداية لا تصل إلى قلوبهم لأنها مغلفة وقد اعترفوا بذلك بأنفسهم وذكر الله قولهم في كتابه في سورة البقرة: "وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ" فقال الله لهم أنكم اشربتم تلك القلوب بالكفر والطغيان والظلم فلعنكم الله. وقال ربنا جل وعلا في سورة النساء: "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً"، أي لهذه الأسباب مجتمعة طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون.
ونتيجة لذلك كله نجد قلوبهم قاسية، فهم يقتلون وينهبون ويأتون الفواحش، وذلك لأن قلوبهم لا يوجد بها هدايات الرحمة واللطف، فقال تعالى واصفا بني إسرائيل في سورة البقرة: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
وكذلك وصفهم في سورة المائدة حيث يقول تعالى: "فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
فهذا حال الذين لا يؤمنون بالآخرة، وهم في ضلال بعيد فإذا ذكر الله اشمئزت قلوبهم ولكن إذا ذكر غيره إذا هم يستبشرون ويفرحون، فقال ربنا تبارك وتعالى في شانهم في سورة الزمر: "وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ".
وقلوب الكافرين الذين كذبوا بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلـم وبين الكفرة من الأقوام السابقة متشابهة، فقد طلب المشكون أن يكلمهم الله أو أن يأتيهم بمعجزة، كذلك قال المشركون من قبل في الأمم السابقة لأنبيائهم فقال تعالى في سورة البقرة: "وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ".
ومن ناحية أخرى نجد أن الله تعالى أمر المؤمنين أن يعتصموا بحبل الله، ويذكروا نعمته بتأليفه بين قلوبهم بعد أن كانوا أعداء متناحرين، فقال في آل عمران: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ".
ومن الدعاء الذي ينبغي على المؤمنين أن يحرصوا عليه ما ذكره ربنا تبارك وتعالى:"رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ".
وقد وصف الله المؤمنين بأنهم إذا ذكر الله خافت وخضعت ورقت قلوبهم كما وصفهم في سورة الأنفال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".
كما أن قلوبهم تطمئن بذكر الله فقال ربنا تبارك وتعالى في سورة الرعد: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ".
كما أن الله ينصر عباده بأن يربط عليها ويقويها فقال تعالى في سورة الأنفال: "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ" كما ذكر ذلك أيضا لأصحاب الكهف في قوله تعالى: "وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا". وهنالك أحوال أخرى لقلوب المؤمنين ذكرها الله في كتابه العزيز.
