No Image
إشراقات

الغلبة في القرآن الكريم

28 يوليو 2022
تأملات قرآنية
28 يوليو 2022

نرى في كتاب الله عند تأمله مصطلحات يستخدمها في الحديث عن بعض المواقف التي تستدعي لشدتها وتناسبها أن يتم استخدام تلك المصطلحات بدون مرادفاتها وإن جاءت في أحايين أخرى مصحوبة مع مشتقاتها ومرادفاتها لتأكيد الفعل، ومن هذه المصطلحات مصطلح «الغلبة» أو الغلب، وهو مصطلح يُراد به النصر والفوز والظفر، ولو أتينا إلى الآيات التي تم استخدام هذا المصطلح فيها لوجدنا أنها تؤكد على غلبة المؤمنين على أعدائهم من الكافرين، سواء في الغلبة المباشرة التي تحدث بالنصر في المعارك، أو في الغلبة المعنوية التي تتمثل في العاقبة والمصير الذي يكبت فيها المشركون.

ومعيار الغلبة والنصر ليس العدد والكثرة، وهذا ما أكدته آيات الكتاب الكريم، فنجد في سورة البقرة عندما تحدث الله عن الملك المؤمن طالوت الذي آتاه الله الملك، وزاده بسطة في العلم والجسم، بحيث اختاره من بين بني إسرائيل ليقودهم وينتصر على الملك الظالم جالوت، فعندما انطلق بهم لملاقاة جالوت أدخلهم في الابتلاء الذي أمره به ربه، وهو ألا يشربوا من النهر إلا أن يغترفوا غرفة بيدهم فقط، ولكن أغلب الجيش شرب من النهر إلا قليلا منهم، وهم المؤمنون حقا، فقال تعالى: «فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»، فمسألة العدد الكبير الذي تخاذل من الجيش وتقاعس عن الدخول في الحرب وشرب من النهر، جعل معيار العدد الكبير يختل، ولكن المؤمنين الذين وعدوا بنصر الله وأيقنوا به قالوا: إن معيار العدد ليس أمرًا محتومًا يحدد الهزيمة من النصر، وكما بلغهم من العلم أن النصر بيد الله، فقالوا «كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله»، فالغلبة تحصل بنصر الله وإعانته وتحقيق وعده.

وهذا وقع مع رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الذي نصره الله ببدر، فقال تعالى في سورة الأنفال: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)»، فقد كان عدد المسلمين في هذه الغزوة ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا، بينما كان عدد المشركين ألف رجل، فجيش المشركين أكثر عددا وعتادا، ولكن النصر بيد الله، فقد وعد الله حقا، واستطاع المسلمون هزيمة المشركين وكانت لهم الغلبة.

وبعد هذه الغلبة التي نصر الله بها رسوله في أول معركة في الإسلام ذكر الطبري في تفسيره عن «ابن عباس قال: لما أصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدْر فقدم المدينة، جمع يهودَ في سوق بني قَينقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا! فقالوا: يا محمد، لا تغرّنك نفسك أنك قتلتَ نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا! فأنـزل الله عز وجل الآية من سورة آل عمران: «قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ» وفيها يعد الله الذين كفروا من اليهود أنهم سيُغلبون، وهذا ما حدث فعلا فقد جلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة.

وقد حكى الله تغرير إبليس بأتباعه من المشركين بأنه لن يغلبهم أحد من الناس، وأنه سيكون معهم في هذا القتال فقد ذكرت كتب التفسير أنه تشبه في هيئة سراقة بن مالك، وقال لهم أنا وقومي من كنانة معكم، ولكن بعد أن رأى جنود المسلمين، ورأى المدد الملائكي الذي أرسله الله ليقاتلوا مع المسلمين، هرب من المعركة، فقال تعالى في سورة الأنفال: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

كما وعد الله قريشا بالهزيمة بعد غزوة أحد التي أنفقوا فيها أموالهم، فسوف تكون عليهم حسرة وسيُغلبون فقال تعالى في سورة الأنفال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ».

وكذلك كان الغلب لموسى وأخيه، وكان سحرة فرعون يمنون أنفسهم بالعطاء من عند فرعون إن كانوا هم الغالبين فقال تعالى في سورة الشعراء مخبرا عن قولهم: «لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ». وكذلك في سورة الأعراف قال تعالى: «وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ».

ولكن الله تعالى قد قضى بالغلبة لموسى وأخيه ومن اتبعهما منذ بادئ الأمر فقال تعالى في سورة القصص: «قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ»، وقال تعالى في سورة الصافات: «وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ» فمن ينصره الله فمن ذا الذي يغلبه، فجند الله وأولياؤه هم الغالبون وأكد الله حقيقة هذا الأمر بقوله في سورة الصافات أيضا: «وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ»، فكان الصغار والهزيمة لفرعون وجنوده فقال تعالى في سورة الأعراف: «فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ».

وابتدأ الله تعالى سورة الروم بأنهم غُلبوا ولكنهم بعد هذه الهزيمة سوف يَغلبون فقال تعالى: «غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» وقد حزن المسلمون لهزيمة الروم؛ لأنهم أهل كتاب بينما الفرس كانوا كفار مجوسا عبدة للنار، بينما فرحت قريش بهذا النصر للفرس، وقد وعد الله في كتابه بأن الروم سوف تكون لهم الكرة، وسيغلبون في بضع سنين وهذا ما حدث فعلا.

وقد قرر الله حقيقة غلبة حزب الله في أكثر من موضع في كتاب الله فقال تعالى في سورة المائدة: «وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ»، وقال في المجادلة: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»، وقال في آل عمران: «إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

وبين الله الطريقة التي كان يحاول كفار قريش أن يصدوا بها الناس عن سماع القرآن الكريم، وذلك من خلال لغوهم أثناء سماعهم أحدا يتلوه فكانوا يصفقون ويصفرون ويرفعون أصواتهم ليشتتوا أذهان الناس ويجعلوهم لا يتأثرون بالقرآن الكريم، طمعا في غلبتهم على الرسول الكريم، وذلك بابتعاد الناس عنه وعدم اتباعه، ولكن أمر الله نافذ رغم إبطال المبطلين، فقال تعالى في سورة فصلت: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ».

ويحكي لنا القرآن حال المشركين يوم القيامة واعتذارهم يوم القيامة وندمهم يوم لا ينفعهم الندم، فقالوا بأنهم غلبت عليهم شقوتهم، فقال تعالى في سورة المؤمنين: «قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ».