No Image
إشراقات

العهد في القرآن الكريم

01 سبتمبر 2022
تأملات قرآنية
01 سبتمبر 2022

ثبات الإيمان في القلوب لا يكون إلا من خلال الالتزام بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه، وهنالك مجموعة من الأوامر التي نجد القرآن الكريم أمر بها وأكد عليها وذلك ما تمثله من أهمية بالغة في صفة المسلم، ومن هذه الأمور هي الوفاء بالعهد، وقد ذكر الله هذه الصفة في الكثير من المناسبات، وجعلها صفة ملازمة للصلاح، بل وهي صفة لازمة للمؤمنين، فنجد سورة المؤمنون الذين عددت صفاتهم ذكرى هذه الصفة اللازمة لهم فقال تعالى: «وَالَّذينَ هُم لِأَماناتِهِم وَعَهدِهِم راعونَ» فهم مراعون لعهودهم موفون بها، وقال تعالى في سورة المعارج: «وَالَّذينَ هُم لِأَماناتِهِم وَعَهدِهِم راعونَ».

ولو تأملنا المواضع المختلفة لورود هذه اللفظة في القرآن الكريم لوقفنا على معانٍ ودلالات متنوعة، فمنها ما ينضح بمدح لمن يلتزمون بهذا الوصف، ومنها ما يقدح بوصف ذميم لمن يخونون العقود والمواثيق، فمثلا نجد في كتاب الله وصفا لبني إسرائيل أنهم لا يوفون بالعهود، وبل ويفترون على الله الكذب، ولذلك جاء القرآن بمفترياتهم وفندها ودحضها بحجج دامغة، فقال تعالى في سورة البقرة: «أَوَكُلَّما عاهَدوا عَهدًا نَبَذَهُ فَريقٌ مِنهُم بَل أَكثَرُهُم لا يُؤمِنونَ» كما أمرهم الله بإيفاء العهود فقال تعالى: «يا بَني إِسرائيلَ اذكُروا نِعمَتِيَ الَّتي أَنعَمتُ عَلَيكُم وَأَوفوا بِعَهدي أوفِ بِعَهدِكُم وَإِيّايَ فَارهَبونِ» وجاء في وصفهم : «الَّذينَ يَنقُضونَ عَهدَ اللَّهِ مِن بَعدِ ميثاقِهِ وَيَقطَعونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يوصَلَ وَيُفسِدونَ فِي الأَرضِ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرونَ». وقال تعالى في سورة الرعد: «وَالَّذينَ يَنقُضونَ عَهدَ اللَّهِ مِن بَعدِ ميثاقِهِ وَيَقطَعونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يوصَلَ وَيُفسِدونَ فِي الأَرضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعنَةُ وَلَهُم سوءُ الدّارِ».

ومن المفتريات التي أتى بها بني إسرائيل أنهم قالوا بأن الله عهد إليهم أن لا تؤمنوا لرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، ولكن الله أجابهم على كذبهم وبهتانهم فقال لهم قد أرسل الله لكم سابقا رسلا أنزلوا عليكم مائدة من السماء فلم تؤمنوا بهم فلما قتلتموهم إن كنتم صادقين، فقال تعالى في آل عمران: «الَّذينَ قالوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَينا أَلّا نُؤمِنَ لِرَسولٍ حَتّى يَأتِيَنا بِقُربانٍ تَأكُلُهُ النّارُ قُل قَد جاءَكُم رُسُلٌ مِن قَبلي بِالبَيِّناتِ وَبِالَّذي قُلتُم فَلِمَ قَتَلتُموهُم إِن كُنتُم صادِقينَ».

كما أن بني إسرائيل عندما وقع عليهم العذاب لجأوا إلى موسى عليه السلام وقالوا له ادع لنا ربك بما عهد عندك وبما أوصاك من عبادته وتوحيده أنه لئن كشفت عنا العذاب سنؤمن لك نحن وبنو إسرائيل فقال تعالى في سورة الأعراف: «وَلَمّا وَقَعَ عَلَيهِمُ الرِّجزُ قالوا يا موسَى ادعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفتَ عَنَّا الرِّجزَ لَنُؤمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرسِلَنَّ مَعَكَ بَني إِسرائيلَ» وقالوا في سورة الزخرف: « وَقالوا يا أَيُّهَ السّاحِرُ ادعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنا لَمُهتَدونَ».

بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك وقالوا لا يوجد خلود في النار، وإنما سيعذبنا الله أياما معدودة، فقال تعالى هل اتخذتم عند الله عهدا بهذا الأمر مكذبا لهم على دعواهم فقال تعالى في سورة البقرة: «وَقالوا لَن تَمَسَّنَا النّارُ إِلّا أَيّامًا مَعدودَةً قُل أَتَّخَذتُم عِندَ اللَّهِ عَهدًا فَلَن يُخلِفَ اللَّهُ عَهدَهُ أَم تَقولونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعلَمونَ»، كما ذكر الله نقض بني قريضة لعهدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الخندق فقال تعالى في سورة الأنفال: «الَّذينَ عاهَدتَ مِنهُم ثُمَّ يَنقُضونَ عَهدَهُم في كُلِّ مَرَّةٍ وَهُم لا يَتَّقونَ».

وأكد الله على ضرورة أن يلتزم المؤمنون بالعهد والميثاق مع المشركين الموفون بعهودهم، فقال تعالى في سورة التوبة: «إِلَّا الَّذينَ عاهَدتُم مِنَ المُشرِكينَ ثُمَّ لَم يَنقُصوكُم شَيئًا وَلَم يُظاهِروا عَلَيكُم أَحَدًا فَأَتِمّوا إِلَيهِم عَهدَهُم إِلى مُدَّتِهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ»، وقال تعالى في سورة التوبة: «كَيفَ يَكونُ لِلمُشرِكينَ عَهدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسولِهِ إِلَّا الَّذينَ عاهَدتُم عِندَ المَسجِدِ الحَرامِ فَمَا استَقاموا لَكُم فَاستَقيموا لَهُم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ» أي فما دام المشركون مستقيمين في عهودهم معكم فأتموا إليهم عهدهم، فالمؤمن لا يغدر، ولكن إن نكثوا أيمانهم ونقضوا عهودهم فقاتلوهم فقال تعالى في سورة التوبة: «وَإِن نَكَثوا أَيمانَهُم مِن بَعدِ عَهدِهِم وَطَعَنوا في دينِكُم فَقاتِلوا أَئِمَّةَ الكُفرِ إِنَّهُم لا أَيمانَ لَهُم لَعَلَّهُم يَنتَهونَ».

كما نجد القرآن الكريم حافلا بالحديث عن عهد الله لأنبيائه ورسله فنجد أن الله يخبر إبراهيم الخليل عليه السلام أن عهده لا يناله الظالمون فقال تعالى: «وَإِذِ ابتَلى إِبراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمامًا قالَ وَمِن ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهدِي الظّالِمينَ» أي أن عهد الله لإبراهيم أن يكون إماما للمتقين يقتدى به، ولكن هذا العهد لا يناله الظالمون من ذريته، وكذلك جاء ذكر العهد في قصة إبراهيم عليه السلام عندما عهد الله إليه وإلى ابنه إسماعيل أي أوصاهم وأمرهما وأوكل إليهما تطهير البيت فقال تعالى: «وَإِذ جَعَلنَا البَيتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَأَمنًا وَاتَّخِذوا مِن مَقامِ إِبراهيمَ مُصَلًّى وَعَهِدنا إِلى إِبراهيمَ وَإِسماعيلَ أَن طَهِّرا بَيتِيَ لِلطّائِفينَ وَالعاكِفينَ وَالرُّكَّعِ السُّجودِ».

وقد بين الله أن الذين يوفون بعهدهم إذا عاهدوا هي الصادقون المتقون فقال تعالى في سورة البقرة: «لَيسَ البِرَّ أَن تُوَلّوا وُجوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتابِ وَالنَّبِيّينَ وَآتَى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكينَ وَابنَ السَّبيلِ وَالسّائِلينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالموفونَ بِعَهدِهِم إِذا عاهَدوا وَالصّابِرينَ فِي البَأساءِ وَالضَّرّاءِ وَحينَ البَأسِ أُولئِكَ الَّذينَ صَدَقوا وَأُولئِكَ هُمُ المُتَّقونَ». وقال في سورة آل عمران: «بَلى مَن أَوفى بِعَهدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقينَ»، وقال الله في المؤمنين في سورة الرعد: «الَّذينَ يوفونَ بِعَهدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضونَ الميثاقَ».

وقد شدد الله وتوعد من يخلفون عهودهم لعروض الدنيا الزائلة أو يحلفون بالله كذبا، فلا حظ لهم في الآخرة وسيجدون الله غاضبا عليهم فلا يكلمهم يوم القيامة ولا ينظر إليهم برحمته وأعد لهم عذابا أليما» فقال في آل عمران :»إِنَّ الَّذينَ يَشتَرونَ بِعَهدِ اللَّهِ وَأَيمانِهِم ثَمَنًا قَليلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُم فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيهِم يَومَ القِيامَةِ وَلا يُزَكّيهِم وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ «.

وقد قرن الله التحذير من الاقتراب من مال اليتيم قرنه بذكر إيفاء العهد، في موضعين في الكتاب العزيز، فقال تعالى في سورة الإسراء: « وَلا تَقرَبوا مالَ اليَتيمِ إِلّا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفوا بِالعَهدِ إِنَّ العَهدَ كانَ مَسئولًا» فأمرهم ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وبإيفاء العهد، وقال في سورة الأنعام: «وَلا تَقرَبوا مالَ اليَتيمِ إِلّا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالميزانَ بِالقِسطِ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلّا وُسعَها وَإِذا قُلتُم فَاعدِلوا وَلَو كانَ ذا قُربى وَبِعَهدِ اللَّهِ أَوفوا ذلِكُم وَصّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ».

كما حكى الله عن أهل القرى الذين حكى الله قصتهم في القرآن الكريم وعن هلاكم، فقال تعالى في سورة الأعراف: «وَما وَجَدنا لِأَكثَرِهِم مِن عَهدٍ وَإِن وَجَدنا أَكثَرَهُم لَفاسِقينَ» أي لم نجدهم مراعين لما عهدنا إليهم به وأوصيناهم عليه من اتباع الأوامر واجتناب النواهي وترك عبادة الأوثان، فلم يلتزموا بما أوصاهم الله به.

وقد وعد الله الذين يقاتلون في سبيله أن لهم الجنة وهذا الوعد موجود في التوراة والإنجيل والقرآن فمن أوفى من الله فوعده الحق، فقال تعالى في سورة التوبة: «إِنَّ اللَّهَ اشتَرى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُم وَأَموالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقتُلونَ وَيُقتَلونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفى بِعَهدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاستَبشِروا بِبَيعِكُمُ الَّذي بايَعتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيمُ».

وبين الله تعالى أن الشفاعة ينالها من التزم العهد عند الله تعالى وذلك بتقواه من اجتناب النواهي والقيام بالأوامر فهم من ينالون الشفاعة يوم القيامة وقد ذكر الله هذا الأمر في سورة مريم فقال: «لا يَملِكونَ الشَّفاعَةَ إِلّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحمنِ عَهدًا»

وأخبر الله عن آدم عليه السلام أنه عهد إلهي وأوصاه بألا يتبع الشيطان ولا يقترب من الشجرة المحرمة، ولكنه لم يكن من أولي العزم من الرسل فقال تعالى في سورة طه: «وَلَقَد عَهِدنا إِلى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِيَ وَلَم نَجِد لَهُ عَزمًا» كما حذر الله من بني آدم من بعد أبيهم بألا يعبدوا الشيطان الذي هو عدو مبين لهم فقال تعالى في سورة يس: «أَلَم أَعهَد إِلَيكُم يا بَني آدَمَ أَن لا تَعبُدُوا الشَّيطانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبينٌ».