الاستغفار مفتاح الرزق
لو تأمل الإنسان في سبب وجوده في هذه البسيطة والغاية التي خلقه الله من أجلها، لوجد أن الله يجيبه في كتابه العزيز بكل وضوح بقوله: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ"، وهنا في هذا الأمر أراد الله تأكيد حقيقة مطلقة أن الخلق لا ينفعون ربهم بعبادتهم له، وإنما الله هو الرزاق ذو الملك والقوة والجبروت، فمسألة الرزق وعلائقها مرتبطة منذ الخلق بالعبادة.
وإذا بحثنا في مفهوم الرزق لوجدنا أنه يشمل توفير حاجات الإنسان المادية التي تعود بالنفع على روحه وبدنه، فهو وسيلة تمهد له طريق الحياة بكل تفاصيلها، فالإنسان يرزق ليعيش حياة مستقرة يستطيع من خلالها أداء واجباته تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، وكذلك ليتمكن من أداء العبودية الحقة لله عز وجل، وهو جزء من اختبار الله للإنسان في هذه الدنيا، حيث يمتحن بقدرته على شكر الله واستخدام نعمه في ما يرضيه، أو يمتحن بارتكابه المعاصي والغفلة عن شكر الله، لذا لا يكون الرزق غاية في ذاته، بل هو أمانة ومسؤولية يجب أن يحملها الإنسان ويفيد بها نفسه ومن حوله ويتصدق على الفقراء والمساكين، ويكون أداة فاعلة في التكافل الاجتماعي.
وقد أمر الله عز وجل عباده ببذل الأسباب والسعي وراء الأرزاق، ولكنه إلى جانب ذلك كله أيضا طرح منطقا آخر مغايرا، يجعل من عمل بسيط خفي، لا يكلف جهدا بدنيا، مفتاحا لأوسع أبواب الرزق، ذلك العمل هو "الاستغفار"، الذي يعتبر وسيلة لتطهير الذنب، بالإضافة إلى كونه أداة لجلب النعم وإنزال البركات وتيسير الأحوال وتفريج الكروب.
وهذا ظاهر جلي في دعوة أنبياء الأمم السابقة لقومهم بأن يعبدوا الله عز وجل ويستغفروه، فيحصلوا على نيل رضاه وإذا رضي عنهم أدهشهم بعطاياه ومنه وكرمه وفضله، فهذا نوح عليه السلام يخاطب قومه فيقول كما ذكر الله عز وجل في سورة "نوح": "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)"، فإلى جانب وعد المغفرة كان هنالك وعد آخر ملازم للوعد السابق وهو الأرزاق الدنيوية التي يسوقها الله لعباده ويمدهم بها وهو الكريم، فيرزقهم الأموال، والبنين، ويجعل لهم مزارع تتخللها الخيرات وتكون خصبة تسقى بالماء العذب، وهنا تظهر العلاقة العجيبة التي لا يتوقعها العقل المادي بين طلب المغفرة وتنزل النعم، وكأن التوبة تفتح قنوات في السماء، تسقي الأرض، وتنبت بها أرزاقا لم تكن لتأتي دون هذا الرجوع إلى الله، وطلب الغفران منه.
ويجب على المسلم أن يكون حاضر القلب في استغفاره، لا يكتفي بتحريك شفتيه مع سرحان للقلب، وإنما يكون قلبه حاضرا منكسرا أمام جلال الله وعظمته، في خشوع وسكينة، وارتباط وثيق بحبل الله، بندم عميق على ما فرط في جنب الله، فيطلب الصفح والسماح من سيده وخالقه، فيتذلل له، ويتقرب إليه بما يحبه ويرضاه، وهذا الرضا ينال بقلب منكسر ولسان مستغفر ونية صادقة بالتوبة، من هنا نفهم لماذا كانت دعوة الأنبياء إلى "الاستغفار" مقرونة دائما بوعود التيسير والتمكين، فهذا هود عليه السلام يأمر قوم عاد الذين أرسل إليهم كما يحكي ذلك القرآن الكريم في سورة هود: " وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)"، فكما أن الذنب يُضعف الإنسان ويحاصره بالتأنيب، ويلحق به مضرة مادية، إلى جانب المضار الروحية، فإن التوبة تقوّي الإنسان، وتربطه بأقوى قوة في هذا الكون وهو الله عز وجل فيستمد منه العون، وكما أن الغفلة والبعد عن طاعة الله تحجب المرأ عن ربه،، فإن "الاستغفار" يفتح صلة الإنسان بخالقة ويتعرض لنفحاته ورحماته، فالسماء لا تمطر بركتها إلا إذا سكن القلب بين يدي ربه طالبا الغفران، وقد أكدت الآية على علاقة الاستغفار بنزول المطر، الذي هو أحد أسباب الرزق.
فالاستغفار يعيد للإنسان اتزانه الروحي، ويفتح له نوافذ نور لم يكن ليراها وهو غارق في ذنوبه أو غافل عن ربه، وما يلبث أن يرى أثر هذا الانسجام في واقع حياته، حيث تتيسر له الأسباب، وتفتح له الأبواب، ويأتيه الرزق من حيث لا يحتسب، كما في الحديث النبوي الشريف: "من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب". وما نراه اليوم من انقطاع للبركة في المال، وضيق في سبل العيش، وانسداد في الرزق رغم كثرة السعي، يدعونا لإعادة النظر في علاقتنا بهذه العبادة، مع علمنا أن الاستغفار ليس بديلا عن العمل، لكنه شرط لبركته، ومن عرف الله في الرخاء بالاستغفار، عرفه الله في الشدة بالفتح والعطاء.
وقد يحدث أن يقبل الإنسان على الله ويلازم الاستغفار، فيفتح له من أبواب الرزق ما لم يكن بالحسبان، وقد سمعنا وشاهدنا اليوم من خلال عشرات الناس الذين يروون تجربتهم مع الاستغفار، وكيف أنه كان سببا لسعادتهم ونيل مطالبهم، بعد أن انقطعوا لله بالاستغفار فصار شغلهم الشاغل، فانهالت عليهم بركات هذه العبادة، وقد رأوها ظاهرة عيانا، من سعة في الرزق، وبعضهم محروم من الأولاد وقد رزقه الله بسبب هذه العبادة، وبعضهم كان عليه دين عظيم، وقلة في المال، وبعد هذه العبادة أغدق الله عليه العطاء فسدد ديونه، وحسن حاله المادي.
فإذا سألت الله رزقًا، فابدأ بسؤال المغفرة، وإذا أبطأ عليك الخير، فربما كان الذنب هو الحجاب، والاستغفار هو المفتاح، فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن المرأ قد يحرم الرزق بسبب الذنوب فقال: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"، وطبعا هذا الحرمان قد يكون تأديبا للمسلم ليلجأ إلى الله ويعود إليه.
وقد يأتي أحدهم ويقول إن الرزق قد يمنح للكافر وللمؤمن، فنقول له إن الرزق الممنوح للكافر هو رزق مادي، إلا أن حالته الروحية والمعنوية تجعل منه رزقا ناقصا، بل قد يتحول إلى مصدر أذى وشقاء، فالكافر الذي يفسد رزقه بمعصيته وابتعاده عن الله، لا ينعم برزق مبارك، بل يعيش في قلق دائم وتوتر، ولا يذوق متعة حقيقية في ما آتاه الله، فالرزق بلا رضا الله وبدون استغفار يفتقر إلى البركة، ويصبح سببا في زيادة الفساد والضياع، فالبركة في الرزق ترتبط ارتباطا وثيقا بالتقوى والقرب من الله، وهو ما يجعل الاستغفار مفتاحا لاستدامة النعمة وتحقيق الطمأنينة والراحة في النفوس.
ومن أكثر ما يلتبس على الناس في فهم الرزق، أن يقاس بمقدار ما يملكون من المال أو ما يحيط بهم من الأبناء، حتى إذا انفتحت عليهم أبواب الدنيا ظنوا أن ذلك دليل رضا من الله وكرامة، فاطمأنوا إلى ظاهر النعمة وركنوا إليها، وغفلوا عن حقيقتها، وهنا تأتي الآيات لتكشف عن عمق هذا الوهم، كما في قول الله تعالى: " أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ (56)" فالعطاء لا يدل دائما على المحبة الإلهية، فهناك من يمد من المال والبنين إمدادا لا تكريم فيه، بل استدراج في لباس النعمة، بلغة القرآن قد تغدق الخيرات على العبد وهو لا يشعر أن ما أوتيه فتنة، وأنه ربما يجر بذلك إلى الغفلة والبعد لا إلى القرب والبركة.
فتبرز قيمة "الاستغفار" بوصفه العامل الحاسم في تحديد طبيعة هذا الرزق هل هو نعمة أم فتنة؟ فالمال إذا جاء بعد توبة، وإذا توافق مع طاعة، وإذا اقترن بخشية واستغفار، فإنه مال مبارك، ينمي النفس ويقرب العبد من الله، ويجعل من العطاء وسيلة للشكر لا بابا للطغيان، أما المال الذي يأتي في غفلة، ومن غير وعي ولا توبة، فيكون -ولو كثر- وبالا على صاحبه، لأنه يؤسس علاقة مادية بالله، تقوم على ظاهر العطاء لا على روح القرب.
