1289930
1289930
إشراقات

عبادة الله على بصيرة.. تقود للإيمان الحق والتقوى وحسن الخلق

29 مارس 2018
29 مارس 2018

ليعبدوا الله مخلصين -

يحيى بن سالم الهاشلي -

إمام وخطيب جامع السلطان قابوس بروي -

«العبادة الخالصة هي التي يتحقق فيها إخلاص القصد لله في أدائها والدينونة له في القيام بها، فإن تحقق ذلك آتت ثمارها المرجوة من صلاح الفرد وإصلاح المجتمع، وفي حال فقدان الإخلاص لن تؤتي العبادة ثمارها المرجوة، فالرياء والتصنع يجعل العبادة جسدا بلا روح، ولا تثمر صلاحا للفرد ولا إصلاحا للمجتمع، ومما يعين المسلم على الإخلاص في عبادته وقبولها عند الله أن تكون عبادته قائمة على فقه وعلم، إذ لا يعبد الله بجهل، ونجد أن الله تعالى وجه المؤمنين أن يولوا عنايتهم بالتفقه في الدين كمهمة تخصصية ليبنى تدين أفراد المجتمع عليه، ومتى ما كانت العبادة مبنية على الإخلاص وعلى بينات العلم ظهرت آثارها على الفرد بتقوى الله كانت سبب الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة».

إنَّ الناظر في أحوال بني الإنسان مع اختلاف أعراقهم ودياناتهم في مشارق الأرض ومغاربها يكاد يجزم أن ممارسة العبادة أمر فطري في حياتهم، وكيف لا تكون كذلك والقرآن صريح في كونها الغاية من الخلق (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ويسعى الإنسان من خلال الممارسات التعبدية إلى البحث عن توازنه النفسي وسكينته الروحية، ويستوي في ذلك السعي من كان على الدين الحق ومن على الضلال بل وحتى من أعلن إلحاده أو اعتنق فلسفات مادية منكرا لوجود الخالق يسعى من خلال ممارسات ذهنية وجسدية لسد احتياجه النفسي والروحي فيستمع للموسيقى ويمارس اليوجا راجيا أن تشبع الخواء الذي يجد، فالنزعة الفطرية للتعبد عند الناس لا يمكن أن تنكر فمظاهرها في المعابد المقامة في أنحاء العالم وصلوات وقربات متنوعة بتنوع البشر ومقاصدهم لدليل على تأصل التعبد في فطرهم وإن كان سعيهم قد ضل وهم يحسبوهن أنهم يحسنون صنعا.

إن الإسلام ينظر للعبادة كضرورة من ضرورات الحياة للإنسان فهي ليست لسكينة الروح وطمأنينة النفس فحسب، بل يتعدى أثرها لتحقق وظيفة خلافة الأرض وعمرانها، فلا يقتصر أثرها على صلاح الفرد فقط بل يعم كل المجتمع والناس (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وليتحقق ذلك ينبغي أن تكون تلك العبادة عبادة خالصة. فكيف يتحقق ذلك؟

إن العبادة الخالصة هي التي يتحقق فيها إخلاص القصد لله في أدائها والدينونة له في القيام بها، فإن تحقق ذلك آتت ثمارها المرجوة من صلاح الفرد وإصلاح المجتمع، وليحقق العبد الإخلاص في عبادته ينبغي له أن يقوم بها تعظيما لخالقه متقربا بها إليه راجيا حسن الثواب ومتقيا بها خائفا سوء العقاب، مستحضرا افتقاره لمولاه وغنى الرب عنه، ولتحقيق الإخلاص في العبادة أرشد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الإحسان فقال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فهذه الدرجة من المراقبة توصل العبد للإخلاص فهو يعلم أن الله مطلع على عمله فلا يخاف فوات أجر ولا يرتكب ما يوجب الوزر، وبذلك يتولّد لديه التوجه بعمله لله وحده خالصا من حظوظ النفوس وعوالق الدنيا، وفي حال فقدان الإخلاص لن تؤتي العبادة ثمارها المرجوة، فالرياء والتصنع يجعل العبادة جسدا بلا روح، ولا تثمر صلاحا للفرد ولا إصلاحا للمجتمع، وبمثل الرياء هناك العبادة إتباعا للعادة، فهناك من يؤدي العبادات تعودا وتماشيا لما يفعله الناس دون أن تترك أثرا في حياته بالصلاح، فيحضر للمساجد للصلوات ويصوم رمضان ويخرج المال زكاة وصدقة ويسافر للحج والعمرة لكن تجده يخوض في المحرمات ويأتي المنكرات، وهذا المثال هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ) فالعبادات تكمن أهميتها في أثرها وإن أهم آثارها يكمن في التقوى.

إن العبادة في الإسلام تنقسم إلى مفهومين، فالعبادة بالمفهوم العام هي كل عمل صالح يقوم به الإنسان فتشمل بذلك مجال المعاملات بين العبد والخالق وبين العبد والخلائق، أما المفهوم الخاص للعبادة فهو في الأفعال التعبدية المخصوصة التي حددها الشرع للناس أن يلتزموها وهي تنحصر في أركان الإسلام العملية وما قد يتفرع منها وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج وما يكون تابعا لها من فرائض ونوافل، فالعبادات في المفهوم الخاص هي الأساس الذي يؤسس عليه الإسلام الفرد ليقوم بالعبادة العامة وعموم الصلاح، وذلك أن غاية تلك العبادات تحقيق التقوى والتي هي سبب الالتزام في باقي مناحي الحياة، فنجد التعليل بالتقوى في كثير من الآيات كغاية للأمر بالعبادة، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فهذه الآية تبين أن عموم الأمر بالعبادة لتحقيق التقوى، كما نجد ذلك تفصيلا في كل عبادة، ففي الصلاة نجد أن التقوى التي تغرسها متعلقة بمراقبة الله تعالى (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)، وفي الصوم نجد التعليل بالتقوى كغاية لفرضه والتقوى المتحصلة منه هي المتعلقة بضبط شهوات الجسم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وفي الزكاة كذلك تتحصل التقوى بتهذيب تعلق النفس بشهوة كسب المال ببذله وإعانة المحتاجين، (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وفي الحج يتحصل العبد التقوى من قصد التقرب إلى الله والسعي إليه بالنفس والمال وترك الأوطان، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، فمن خلال هذه العبادات يخوض المسلم تجارب عملية في تحصيل التقوى فإن نجح في تحصيلها كانت له تلك التقوى معينا على أداء باقي العبادات المتعلقة بحق الخالق والخلائق وكانت دافعة له لحسن القول وصلاح العمل، فمن تولدت عنده تقوى مراقبة الله من الصلاة لزمها في حياته بالبعد عن المنكرات، ومن امتنع عن الحلال في صومه تقاة امتنع عن المحرم من باب أولى، ومن أخرج حق الفقير من ماله زكاة وبذل الصدقات انتهت نفسه عن أكل أموال الناس بالباطل، كما يولد السعي إلى الله بالحج إلى بيته وامتثال أمره بضبط النفس عن كل سعي في إفساد، بذلك تكون التقوى ثمرة العبادة التي ينتج عنها نفعا للعبد وصلاحا للكون وتحقيقا لغاية الخلق.

وإن مما يعين المسلم على الإخلاص في عبادته وقبولها عند الله أن تكون عبادته قائمة على فقه وعلم، إذ لا يعبد الله بجهل، ونجد أن الله تعالى وجه المؤمنين أن يولوا عنايتهم بالتفقه في الدين كمهمة تخصصية ليبنى تدين أفراد المجتمع عليه فقال سبحانه: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، كما يلجأ المسلم لسؤال أهل العلم عن ما يشكل عليه: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الحث على التفقه في أمر الدين بقوله: (من أراد الله به خيرا فقهه في الدين)، فيتعلم المسلم كيف يؤدي عبادته مستوفية الأركان والشرائط ولا يظل حبيسا للجهل وقلة العلم فيقع في النواقض والمبطلات فيها خصوصا مع توفر سبل التعلم والسؤال. فمتى ما كانت العبادة مبنية على الإخلاص وعلى بينات العلم ظهرت آثارها على الفرد بتقوى الله كانت سبب الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).