اليوم العالمي للأسرة.. الإسلام جعلها أساس الأمر في حياة المجتمع
نماذج من الصفات التي شرعت لتحافظ على كيان الأسرة -
د. سعيد بن سليمان الوائلي - كلية العلوم الشرعية - مسقط -
«مما يمتاز به التعامل بين أفراد الأسرة ما يكون فيها من الحب والوئام إلى درجة الإيثار وهو تقديم الآخر وتفضيله على النفس وما تشتهيه؛ تحقيقا للمحبة وتأكيدا للمودة بينهم.
ولعلّ من أجمل الصفات الأسرية التي يتّصف بها الإنسان في محيط عائلته: حب العطاء وتحقيق الخير للآخرين، وما أقبح أن يتّصف الإنسان بالأنانية وحبّ الذات ولو على حساب أفراد أسرته وعائلته».
إن من شمولية الدين الإسلامي الذي ارتضاه الله تعالى لعباده أن نظم حياة الفرد في كل مجالات الحياة، ومن تلك المجالات حياة الأسرة التي أوجدها بداية، ورتب شؤونها تاليا، وحفظ كيانها وحافظ على مكانتها مليّاً.
ومما يؤكد هذا المعنى ما نجده في نصوص القرآن الكريم من تذكير بنعمة الوجود مرتبطا بأصول الإنسان، الوالدين، باعتبارهما من أسباب وجود الإنسان، كمثل قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فنعمة خلق الإنسان وإيجاده في الحياة مرتبط بخلق من قبله من الناس، فلا يتصور وجود أحد منفصلا مستقلا إلا بأصل الجنس البشري الذي خلقه الله تعالى وأكرمه، وقد قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).
وهكذا شرع الإسلام وجود الأسرة بنظام حكيم، وجعلها أساس الأمر في حياة المجتمع، لأنها اللبنة المكوّنة له، والخليّة التي تربط بين أجزائه، ولها أثرها على شرائح المجتمع المدني ومستوياته، كما لا يخفى ذلك على متأمل. ولكي تكون الأسرة مبنية بأصول متينة جعلها قائمة على روح من المودة والرحمة بين الزوجين اللذين هما عمادة بنائها، وقاعدة أركانها، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، ولو تفكرنا في تصريح الآية بأن الأزواج خلقت لنا من أنفسنا حيث قال: (من أنفسكم) ثم لتحقيق السكن بمودة ورحمة، لأدركنا السر الإلهي في قيام الأسرة على أصول شرعية تحفظ لها نشأتها وكيانها من أول الأمر.
ولذلك كان قيام الأسرة من أول الأمر على حسن العشرة بين الزوجين، وجميل الصحبة بينهما، وعدم الإساءة إليهما، مع ما يكون من أداء اللازم والواجب من كل فرد للآخر.
ثم يأتي بعد ذلك تنظيم شؤون الأسرة ببيان وظائف كل من الرجل والمرأة حسب طبيعة تكوين كل فرد منهما، فيجعل الكيان الأسري قائما على قطبين، كل منهما يكمل الآخر، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، وينتظم العمل بينهما بما يكفل المعيشة الطيبة لكل أفراد الأسرة صغارا وكبارا، ذكورا وإناثا، على أن تكون المرأة مكفولة الجانب في حماية رب الأسرة الذي حُمّل مسؤولية القوامة؛ (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34]، وإن كانت الشراكة في المسؤولية حاصلة في جوانب من الرعاية، فقد جاء في الحديث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته». وفي هذا الحديث إشارة إلى عظم المسؤولية التي يتحملها كل فرد تجاه من يرعاه.
ومن أجل المحافظة على الأسرة في وجودها وكيانها، وصيانة لها عن التفكك والانحلال، شرع الإسلام جملة من القيم والأخلاق الحسنة التي يؤمر الإنسان أن يتحلى بها في تعاملاته مع الناس بصفة عامة، وفي تعامله مع أسرته بصفة خاصة، فعند تعامل الفرد بمن يحيط به من أفراد العائلة التي ينتمي إليها ينبغي أن يكون سلوكه معهم منطلقا من أخلاق الإسلام ومبادئه، والتي من بينها – مثالا عليها لا حصرا لها- في المقام الأول: الإحسان (بالوالدين وغيرهما): والإحسان بكل بساطة هو الإتقان، والإتيان بالمطلوب شرعا على وجه حسن، وبذل المعروف لعباد الله من قول أو فعل أو مال أو جاه، وهو فعل ما هو حسن وجميل، وترك ما هو سيء وقبيح. إن من قيمة الإحسان في الأسرة أنه يمثل الحسن في تعامل كل فرد فيها مع الآخر بما يكون حسنا وجميلا، بجانب البعد عن الضرر والإضرار والسوء والأذى، حيث يكون ذلك منافيا للإحسان بصورة عامة.
ومن مجالات الإحسان العائلي: الإحسان إلى الوالدين ويتمثل في البر بهما وعدم الإيذاء لهما بأي نوع من أنواع الأذى، بل ويكمل الإحسان بتقديم النفع لهما بما يسعدهما. ويكون الإحسان إلى كل فرد في محيط الأسرة والمجتمع بدفع الضرر وجلب النفع قدر المستطاع.
ومن النصوص التي تحث على ذلك قوله تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) [النساء: 36]، وقوله عز وجل: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 151]، وقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [الإسراء: 23].
ومن الأخلاق التي يتعامل بها المسلم مع أسرته: خلق التعاون أي المساعدة، ويتمثل بمساعدة أفراد العائلة بعضهم بعضًا في الحاجات وما يفعلون من فعل الخير.
والتعاون يشمل جميع جوانب الحياة الأسرية، حيث يكون بين الوالدين والأولاد، وبين الزوجين فيما يقومان به، وبين الصغير والكبير..
ومن النصوص الشرعية التي تحث على التعاون بصورة عامة، قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2]، وعلى لسان ذي القرنين: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) [الكهف: 95]، ومن الحديث: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». و«مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
ومن القيم النبيلة التي تلازم الأسرة وتحفظها: الرحمة والتراحم بين أفرادها، وما يكون من الرقة والعطف بينهم. إلى درجة أن تكون رقّةٌ في النفس، تبعث على سَوْق الخير لمن تتعدّى إليه، فهي عكس القسوة والغِلظة.
ومن النصوص ما جاء فيها ثناء الله على المتصفين بالرحمة والمتخلقين بها، قال تعالى واصفاً رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح: 29] وقال: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) [البلد: 11– 18]. ومن الحديث النبوي: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»، وحديث: «لا تنزع الرَّحْمَة إلَّا من شقيٍّ».
فإذا كانت الرحمة مشروعة بهذا الحث الكريم، فكيف تكون مشروعيتها في الأسرة؟! التي جعلت قائمة على المودة والرحمة.
كذلك قيمة الإصلاح لشؤون الحياة بما يناسب العائلة في معيشتها ومآلها، بحيث يكون من الإصلاح تغيير ما فسد إلى وجه صالح، وتغيير الصالح إلى ما هو أصلح حتى تستقيم الأمور.
وقد وردت نصوص الآيات في القرآن الكريم بهذا الخلق، منها: قوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 114]. (إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10] ومن الحديث النبوي ما يوجه إلى الإصلاح كحديث: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وحديث: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم».
ومما يمتاز به التعامل بين أفراد الأسرة ما يكون فيها من الحب والوئام إلى درجة الإيثار وهو تقديم الآخر وتفضيله على النفس وما تشتهيه؛ تحقيقا للمحبة وتأكيدا للمودة بينهم.
ولعلّ من أجمل الصفات الأسرية التي يتّصف بها الإنسان في محيط عائلته: حب العطاء وتحقيق الخير للآخرين، وما أقبح أن يتّصف الإنسان بالأنانية وحبّ الذات ولو على حساب أفراد أسرته وعائلته.
وهذه نماذج من الصفات التي شرعت لتحافظ على كيان الأسرة، وتساعد على إثبات وجودها في الحياة العامة بما فيها من مشكلات ومصاعب، وبجانب هذه الأخلاق توجد تشريعات ربانية في الأوامر والنواهي والحدود، وهي مجموعة في نوع من أنواع الفقه الشرعي، معروفا بفقه الأسرة، وهذه التشريعات لها دور لا يخفى وأثر لا ينسى في المحافظة على الأسرة التي تعد اللبنة الأولى للمجتمع والخلية الأساسية المكونة لبنائه.
المحافظـة عليهـا مــن الهــدم والضيــاع -
حمود بن عامر الصوافي -
«الأسرة كيان متماسك في شريعة الإسلام وشرائع الله قاطبة كل يخدم الآخر في هذا التلاحم والتآزر ولكن مع الانفتاح على العالم الخارجي باتت الأسر خائفة من انتزاع هذا التلاحم وإحلال التفكك الأسري وذهاب روح الفريق الواحد كما يحدث في كثير من الدول المتقدمة فباتوا يأملون أن ترجع أيامهم السابقة ويجتمعوا مع أسرهم وأصحابهم فقد ضيعتهم المدنيّة وضيقت جمعهم وحياتهم».
الأسرة تكونت نتيجة رابطة مقدسة، وعقد متين ووثاق عظيم مبني على التراضي والتراحم والتجانس والتلاحم بين الزوجين لينشأ من خلال هذين الفردين أولاد وبنات وأسرة متحابة متراضية يسودها الأنس والرحمة ويكتنفها التعاون والتآزر فلا يشذ أحدهم عن الآخر، ولا يتمرد الأول على الثاني بل يعملون عمل الفريق الواحد ويواجهون المصائب والكوارث باليد الواحدة كل يدلي بدلوه في مكانه ويساعد أخاه من جهته فهذا يساعد بعضلاته وذاك بقلمه والتالي بعقله، والآخر بإبداعاته.
كل يقدم للأسرة ما ينبغي ويتوجب عليه وما يبدع ويبرع فيه فلا يمكن أن يرمى الحبل على الوالد أو الوالدة ويبقى بقية الأسرة في تقاعس وتهاون واتكال، ولا يمكن أن يترك الحبل على غاربه لتعيش الأسرة فوضى خلابة لا حارس لها ولا موجه.
بل الكل يشارك في صنع الأسرة وتقديم الأحسن والأمثل للأمة، فالزوج قائد الأسرة وحاميها ولكن قيادته لا يمكن أن تتعدى حدود المسموح والمنوط به، فلا ينتهج نهج التسلط والاستحواذ على القرارات والتعالي على أفراد الأسرة بحجة أنه القائد الملهم والعالم بما يضر وينفع بل يجب أن تكون سيادته سيادة إدارة وتنظيم فلا يجري أمر جلل دون علمه أو إعلامه ولا ينفذ أمر كبير دون اطلاعه أو نظره لكونه رب الأسرة والمسؤولية العظمى تقع على كاهله لذا يحبذ استشارته واطلاعه على ما يجري في الأسرة وليكن الأب الحامي والمساهم في رقي الأسرة من خلال جلوسه مع أولاده ومساعدته إياهم ومشاركته في لعبهم وفرحهم وأتراحهم ودراستهم.
ولتكن علاقة رب الأسرة بزوجه علاقة ملؤها التقدير والمحبة وليس العنجهية والتسلط وليشاورها فيما يعزم على فعله فربما كان رأيها أكثر سدادا منه وأعلى نظرا فلا يظلمها في المشورة ولا يحتقر رأيها فيما تبديه من جوانب مضيئة، وكذلك الأولاد يجب أن تكون لهم إسهامات ومشورات، فلديهم من الطاقات الكثير ومن الأفكار الجليل، فهم جيل صاعد لديه طموحات مختلفة وإبداعات متعددة يجب أن تنطلق من الأسرة لتسير بعد ذلك على دربها في ربوع عمان الأبية فيستفيد منها المجتمع والأمة بأسرها.
وللأولاد دور مهم في الأسرة فلا ينبغي منهم أن يتكلوا على أمهم ووالدهم في البيت بل ليكن لكل واحد منهم بصمته ودوره لا سيما في الأشياء الشخصية التي تخصهم كالغسيل ومساعدة أمهم في المطبخ وتنظيف البيت مثلا فكل من يسكن البيت عليه أن يشارك ويساعد فلا يليق بك أن تسكن مع أناس هم يخدمونك ويقدمون لك ما تلذ وما تشتهيه من الأطعمة وما ترغب فيه من الأكل بل ليكن لك دور في كل ما يجري في البيت؟ ماذا سيكون دورك لو سكنت مع أناس مختلفي المشارب والأماكن والتوجهات هل ستبقى مكتوف الأيدي تحلّق نظرك نحوهم ولا تشاركهم في أعمال البيت الذي تنام وترقد فيه ولا تسهم في التنظيف والطبخ أو كل ما يخص البيت؟ لا ريب أنك ستفعل فكذلك مع أسرتك يجب أن يكون ديدنك وحياتك.
والأسرة كيان متماسك في شريعة الإسلام وشرائع الله قاطبة كل يخدم الآخر في هذا التلاحم والتآزر ولكن مع الانفتاح على العالم الخارجي باتت الأسر خائفة من انتزاع هذا التلاحم وإحلال التفكك الأسري وذهاب روح الفريق الواحد كما يحدث في كثير من الدول المتقدمة فباتوا يأملون أن ترجع أيامهم السابقة ويجتمعوا مع أسرهم وأصحابهم فقد ضيعتهم المدنيّة وضيقت جمعهم وحياتهم.
فلا بد لنا أن نعي واقعنا وأن نحاول السيطرة على كيان أسرنا من الهدم والضياع وذلك بالتوجيه وتقديم الأفضل للأسرة فلتكن التوعية والثقافة حاضرة في الأسر فلا ينبغي لنا أن نهجر أحد أبنائنا بمجرد خطأ بسيط أو ثقافة تسربت إليه من الآخرين وإنما نحاول أن نجلس معه ونتفهم حجته ونرشده إلى الصواب ليكون البناء صلبا لا يتقوض لأول بادرة أو أول هبة أو رياح عاتية فلنقاوم تلك الرياح العاتية بالرشد والتوجيه والإحسان فلا يحبذ أن تكون الصدود صدمات لا تحقق غرضا ولا تعالج قضية بل لتكن محكومة بالحسنى وحسن الكلام لأن الأسرة هي نواة المجتمع وقد قال قائلهم من قديم الزمان:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
ومثل هذا ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: « كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ » لذا كان منطلق صنع الأمة وتكوين الرجال من الأسر المترابطة المتلاحمة فإن افكت هذه الرابطة المقدسة أو تفككت ضاعت الأمة وبدأ الخراب يدب فيها من كل مكان وستبدأ مقومات الأسر بالتآكل شيئا فشيئا لذا كانت الصيحات في كل مكان وزمان تحاول أن تبقي شعلة الأسرة مضيئة وضّاءة لا تستجيب لأي محاولة لثنيها عن دورها أو تقليص وظيفتها.
ولا يعقل أن تكون حجة الإنسان فيما يخص أسرته واقعه الذي يعيشه وزمنه الذي ولد فيه فيقول: إن المدنيّة بما أنتجته من قيم هي مناقضة للأسرة وداعية إلى التنمر عليها والتقليل من شأنها إلا أن المصلحين في كل مكان وزمان يحاولون أن يردوا تلك الصيحات على أعقابها ويثبتوا للناس والعالم بأسره أن النواة الأولى للمجتمع لا يجوز أن تخدش أو أن يعتدى عليها أو ينال من جودتها ووثوقها.
لذا عمدت الأسر في كل مكان لا سيما تلك التي تعيش في صلب المدنّية المعقدة التي يسود فيها المال والدولار وينفصل الابن والبنت عن أسرته إبان الثامنة عشرة من عمرهم فيبدأ الأبوان بالرجوع إلى المثلث الأول والعيش وحيدين دون أولاد أو بنات، ويبدأ الأولاد مرحلة صعبة في تأمين المستقبل والدخول في معترك الحياة دون خبرة أو مهارة.
آباء وأمهات فقدوا فلذات أكبادهم وأبناء وبنات بدأوا يشقون حياتهم فلا أولئك سعدوا بحياتهم التعيسة دون أولادهم ولا هؤلاء نجحوا في حياتهم القادمة دون توجيه واعتماد على من يقوّم سلوكهم ويوجه أمرهم ولكنها ثقافة إذا بدأت تدب انتشرت انتشار النار في الهشيم فلا تتغير إلا بصعوبة بالغة ولا تتزحزح إلا بعد تعب ولأي وهكذا دواليك تنشأ الثقافة ويرمى بالقيم والمبادئ في الخلف ولكن يمكن لرب الأسرة والأسرة كلها أن تعزم منذ البدء على مقاومة أي تمدن يطول الأسرة فلا تجنح إليه ولا تمشي مع الموج الدفاق وعليها أن تتأنى في أمرها وتجعل أمر الزيارة والمساعدة والتعاون على أشده فلا أحد مستقل على الآخر وغير مسؤول عنه ولا أحد يعلي صوته فوق صوت الجماعة والأسرة الواحدة وليكن النصح والإرشاد قائما في أرقى معانيه لضمان بقاء الرابطة المقدسة والنواة الأولى في المجتمع وقد رأينا كثيرا من الأسر ولله الحمد تعيش في قلب المدنية إلا أنها استطاعت أن تحافظ على كيانها من الذوبان مع الثقافات التي تتاخمها أو تعيش بجنبها فنشأت تلك الأسر كأسرة واحدة يسودها التعاون والتآنس والمحبة بل صارت السعادة ترافقها لأن الفرد الواحد قد يتعرض لمآس ومصائب ويحتاج إلى الآخرين الذين يقفون بجنبه وينتشلونه من سباته وغفلته وسوآته فلا يجد أمامه إن تهدمت أسرته أحدا ولا يجد من يأخذ بيده إن حاد عن الطريق السوي أو انحرف عن الصراط المستقيم لذا سيخسر عند أول مصيبة أو تجربة فكان المحافظة على الأسرة والاستمساك بها هو محافظة على كيان الفرد والأمة جمعاء وهذا مطلب ديني لا يجوز الانعتاق عنه أو التهاون فيه بحجة أن المجتمعات تتجه إلى التغيير متأملة في تحسين الأوضاع الاقتصادية والحياتية بهذا التغيير بل ليدرك الجميع أن ما نصنعه فيما يخص تفكك أسرنا ظنا منا أنه يصلحنا هو هدم لأساسياتنا فلا يكون حالنا حينئذ إلا كذاك الذي بنى قصرا وهو فرح به جذل بصنيعه لكنه لم يدرك أنه هدم مصرا بأكمله فما أتعسك أيها الغبي لما يتراءى لك النجاح الفردي والسعادة الآنية بيد أنك نسيت ما فعلته بنفسك وأهلك وأسرتك وأمتك جمعاء فليكن عزمك على مجابهة كل ما يقوض بنيان الأسرة أو يضيع مبادئ الحياة الكريمة في داخل الأسر الآن الآن.
