1261057
1261057
إشراقات

الخليلي: التحلي بمحاسن الأخلاق.. أهم ما يميّز الإنسان ويقربه من بني جنسه

01 مارس 2018
01 مارس 2018

نبينا الكريم أبرّ الناس قلبا وأحسنهم سيرة وأطهرهم سريرة -

الأخلاق ميزان التفاضل.. والمسلم مطالب بأن يتلطف في خطابه للناس -

عرض :سالم الحسيني:-

نقف مع القارئ الكريم في هذا العرض مع كتاب «نداء الحق» الذي صدر مؤخرا لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة الذي يعالج بعض العادات والتقاليد التي تفشت في المجتمع وتقبلها الناس، ويرى سماحته ضرورة التنبه لها وتبصير الناس بأمور دينهم، تناولها سماحته في أربعة عشر محورا.. هنا نستعرض محور الأخلاق.. فقد جاء تحت عنوان: «الأخلاق الحسنة ضرورة ملحة في حياة البشر»:

إن من أهم ما يميز الإنسان ويزينه ويزكي طباعه ويقربه من بني جنسه، وينشر بينه وبينهم المودة والحنان والألفة والوفاق التحلي بمحاسن الأخلاق، فان الأخلاق الحميدة عندما تتحلى بها الأمم تكون معارج لها إلى الأقدار العالية ووسائل لها إلى غزو القلوب واحتلالها بالمودة والشفقة والحنان، وقد أبان الله سبحانه وتعالى عما للأخلاق من قدر عال عنده عندما ميز نبيه صلى الله عليه وسلم بما حلاه به من الأخلاق، إذ قال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وهو دليل على أن الأخلاق هي بالنسبة إلى المزايا الأخرى كالأرواح للأبدان، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بما علمه الله تعالى إياه، كيف وقد امتن سبحانه وتعالى عليه بتعليمه ما لم يعلم، عندما قال: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) إلا انه بجانب ذلك لم يصفه الله تعالى بالعلم الغزير في مقام التفضيل، وإنما فضله بالخلق العظيم، وبين انه كغيره من عباد الله مهما علموا لا يمكن أن يتجاوز علمهم حدود فطرهم التي لا تتعدى دور المخلوقية، وإنما العلم المطلق لله تعالى وحده، والنبي صلى الله عليه وسلم مع غيره داخل في عموم خطاب الله تعالى القائل: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) وبيّن تعالى أن هذا الخلق الرفيع الذي زين به رسول صلى الله عليه وسلم ورفع به قدره بين الناس هو الذي قربه إلى قلوب أصحابه فأحبوه وأكبروه، وأطاعوا أمره وبذلوا مهجهم في نصرته، فقد قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)، وقد أجمعت الآية الكريمة بين وصفه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وحثه على أن يكون تعامله مع أصحابه بحسب ما تقتضيه هذه الأخلاق الكريمة. لهذا امتن الله سبحانه وتعالى على الذين بعث فيهم هذا النبي الكريم بما حلاه به من مكارم أخلاقه التي ينجذب إليها الناس بالفطرة، فقد قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

وتحت عنوان «رسالة الإسلام هي رسالة أخلاق» يقول سماحته: كانت مهمته صلى الله عليه وسلم في الرسالة العظمى التي حملها إلى الإنسانية أن يبني أمة تمتاز بأخلاقها وتسود بأحلامها، وقد بين ذلك في قوله: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وفي رواية أخرى: «إنما بعثت على تمام محاسن الأخلاق»، وبهذا يتبين أن حضارة الإسلام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كانت حضارة أخلاق، وقد وصى القرآن الكريم بمخالفة الناس جميعا بالخلق الحسن، قد ذكر الله تعالى وصيته لبني إسرائيل التي جاء فيها: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، وبهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن». وبيّن صلى الله عليه وسلم مكانة الأخلاق الحسنة وجزاءها الحسن عند الله تعالى بقوله: «خياركم أحاسنكم أخلاقا»، وفي حديث عنه: «أحبكم إلى الله أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الإخوان الملتمسون للبراء العثرات»، وعند البخاري من طريق ابن عمرو: «إن من أحبكم إليّ أحسنكم أخلاقا». وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا يا رسول الله ما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون»، وفي رواية: «إن أحبكم إليّ وأقربكم مني في الآخرة مجالس محاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إليّ يوم القيامة المتشدقون المتفيهقون»، وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، المرأة منا يكون لها في الدنيا زوجان، ثم تموت فتدخل الجنة وهي وزوجاها لأيهما تكون للأول أو للأخير؟ قال: «تخير، فتختار أحسنهما خلقا كان معها في الدنيا، فيكون زوجها في الجنة يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا وخير الآخرة».

وجاء تحت عنوان: «التفاضل بين الناس بحسب الأخلاق».. هذا كله يدل على أن الأخلاق هي ميزان التفاضل بين الناس، وبقدر التفاضل فيها يكون الإنسان أحب إلى الله وإلى عباده، فالمرأة عندما يكون لها اكثر من زوج في الدنيا ثم تبعث يوم القيامة إلى الجنة وتجد هناك أزواجها تخير بينهم، فتختار من كان في الدنيا ألطفهم معها معاملة وأحسنهم خلقا، وهو - وإن غمر أحد رجال سنده - فانه يعتضد بالأحاديث السابقة الدالة على أن مكارم الأخلاق هي مدارج الارتقاء في الدار الآخرة إلى المنازل العليا، كما أنها في الدنيا تدني صاحبها من بني جنسه وتحببه اليهم.

وأضاف قائلا: ولهذا كان عنصر الأخلاق هو مدار التشريع في الإسلام، فما من أمر شرع في الإسلام إلا وهو مرتبط بالأخلاق، ناهيك إن الله سبحانه أمر بالقول الحسن لجميع النساء، ولم يحصره في المتقين أو المؤمنين، أو المحسنين، وإنما قال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، وهذا يعني أن المسلم مطالب بأن يتلطف في خطابه للناس جميعا، وأن يرد المسيء إلى الإحسان، والضال إلى الهدى، والمخطئ إلى الصواب بما يأسر قلبه ويجتذبه إلى الطاعة والانقياد، فالدعوة إلى الله تعالى لا تكون بما ينفر الناس ويبغّض الداعي ودعوته اليهم، وإنما يجب أن تكون بما يؤلف قلوبهم ويقرب شاردهم كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، وقد أكد الله تعالى أن الدعوة التي يصدقها العمل وتكتنفها الأخلاق الحسنة هي أحسن ما يقال، وذلك في قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، واتبع ذلك توجيه الدعاة إلى الرفق في خطاب المدعوين واللطف في معاملتهم عندما قال: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) ووجه الله تعالى المؤمنين في مجادلتهم لأهل الكتاب أن تكون بالرفق والحسنى إلا من ظلم منهم، إذ قال سبحانه: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، وهو الذي فعله صلى الله عليه وسلم فعندما وجه خطابه إلى هرقل عظيم الروم اختتمه بالآية الشريفة تنفيذا لأمر الله وتبيانا لحجته.

كما جاء تحت عنوان: جميع الرسل الكرام طبعوا على الأخلاق العالية وبذلك وصّاهم الله تعالى: لا ريب أن هذه الأخلاق الكريمة هي وصية الله تعالى لجميع رسل حتى عندما يرسلهم إلى أعتى العتاة وعنف المتكبرين، فقد وجه موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون الذي بلغ به الغرور والعتو إلى ان يقول لملئه: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، وهو يعني انه باغتراره وتكبره أقصى الله تعالى عن الألوهية ونازعه فيها فاستأثر بها دونه، ولكنه تعالى أمر موسى وهارون أن يتلطفا معه في الخطاب، إذ قال لهما: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) معه انه سبحانه علم منذ الأزل انه لن يتذكر ولن يخشى، ولكنه جعلها سنة أنبيائه في مخاطبة أعدائه، وبين سبحانه هذا القول اللين فيما وجه إليه موسى عليه السلام من خطابه بقوله: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى).

وهذا الذي جرى عليه رسل الله تعالى المصطفون الأخيار حتى لو واجهوا العتو والاستكبار من الذين ارسلوا اليهم، فهذا نوح عليه السلام يحكي الله خطابه لقومه ومجادلته لهم بعدما سفهوه ونسبوا إليه الضلال وشتموا الذين اتبعوه، واتهموهم بأنهم أراذلهم، وذلك في قوله تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ، وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ....) إلى آخر الآيات.. واستمرت هذه المجادلة بينه وبينهم مدة ألف سنة إلا خمسين عاما، وهو يغدو ويروح على دعوتهم بهذا التلطف والرفق، وإقامة البينات عليهم من خلق أنفسهم وخلق الكون من حولهم، وما هيأه الله لهم من نعمه التي لا تحد بحد ولا تقدر بثمن، لولا فضله عليهم ولطفه بهم لتعذر عليهم أدناها، فضلا عن أعلاها، وهم معرضون عن كل هذا، قد ختم على قلوبهم وأسماعهم وغشيت أبصارهم فغدوا كأنهم لا يسمعون للحق نداء ولا يفقهون له معنى، ولا يبصرون له نورا، إلى أن أتاهم من أمر الله ما أتاهم.

ومثل ذلك ما ذكره تعالى عن هود عليه السلام في قوله: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ، يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ..) إلى آخر الآيات الكريمات.

وما حكاه عن صالح في قوله: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ، قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ). ومثل ذلك مجادلة لوط لقومه، وكذلك مجادلة شعيب عليه السلام: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ...) إلى آخر الآيات.

وانظروا كيف كان تلطف إبراهيم عليه السلام بأبيه العنيف ومحاولة أخذه بيده إلى الرشد والهدى، وزحزحته عن الغي والضلالة وما يتبعهما من سخط الله وعذابه، ومع ذلك كله كان الأب الجافي العنيف لا يقابل هذا اللين إلا بالشدة، ولا هذا الإرشاد إلا بالعناد، وقد حكى الله ذلك كله في قوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا، قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا، قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا).

فقد بالغ إبراهيم في التلطف بأبيه في الخطاب وتبصيره بالحقيقة التي كان يجحدها والحق الذي ينكره وإقامة الشواهد على ذلك، ولكن الأب القاسي لم يقابل هذا الرفق إلا بالمبالغة في العنف والتشدد في الخطاب، فقد أصر واستكبر استكبارا، وجاهر بعتوه.

وهكذا جميع المرسلين كان منهم لين الجانب وسعة الصدر واحتمال المكاره في سبيل إبلاغ دعوة الله إلى الناس، مع ما كانوا يواجهون به من شراسة الأخلاق وسوء المعاملة والغلظة في الخطاب، ولم يثبهم ذلك عن الاستمرار في الدعوة وإبانة ما يتحلون به من أخلاق سامية وفضائل ثمارها فواضل وإحسان وهذا يعني أن الرسل جميعا كانوا يتحلون بالأخلاق العالية لأن الله سبحانه وتعالى صنعهم على عينه، واختصهم باجتبائه وطبعهم على مكارم الأخلاق.

وعندما بزغت على الوجود شمس خاتم النبيين وتاج المرسلين كانت الأخلاق هي سيماه وجبلته، فعرف انه كان أبر الناس قلبا وأحسنهم معاشرة، وأوفرهم عقلا وأحسنهم سيرة، وأطهرهم سريرة، وأصدقهم قولا، وأصلحهم عملا، وآمنهم يدا، وأحبهم للخير، وأحرصهم على نشره بين جميع الناس، ناهيك أن الله تعالى عاتبه عتابا لطيفا على ما كان يحمله من هموم إعراض قومه عن الحق، وصدودهم عن اتباعه وما يخشى عليهم من عاقبة ذلك، فقد قال تعالى له: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، وقال: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وهو من حرصه على شيوع الخير بين الناس وقبولهم للهدى وتجنبهم ما يؤدي بهم إلى الردى كان يكبر عليه أنهم عرضوا عن الحق ويصدوا عنه، فيحمل نفسه من هموم ذلك ما يكاد يبخعه أي يهلكه، وهذا من رحمته البالغة وشفقته على عباد الله، وقد أخبر بهذا عن نفسه عندما وصف حاله بقوله: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنها آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي).