1118355
1118355
إشراقات

التفكر في خلق الكون.. وأثره في ترسيخ الإيمان

28 سبتمبر 2017
28 سبتمبر 2017

فريضة إسلامية -

د. يوسف بن إبراهيم السرحني -

خبير بوزارة التعليم العالي -

إن التفكر في الإسلام فريضة من فرائضه، وعبادة من عباداته، وشعيرة من شعائره، وأصل من أصوله، هي عبادة عالية القدر، جليلة الشأن، رحبة المعنى، واسعة المجال، عظيمة النفع، هي عبادة الأنبياء، والمرسلين، والعلماء، والصالحين؛ يثاب عليها المسلمون، ويؤجرون عليها، وبها يتقدمون حضاريًا في جميع المجالات المعنوية والمادية كما حدث في العصور الذهبية للإسلام. أما إن تركوها فإنهم يأثمون، ويتأخرون، ويتقهقرون إلى الوراء، ويتخلفون عن الركب البشري، والتقدم الحضاري.

لقد أولى الإسلام التفكر عناية بالغة، واهتم به اهتمامًا منقطع النظير، كونه مفتاح الوصول إلى معرفة الله تعالى والإيمان به، والانتفاع بخيرات الكون، فالتفكر هو أفضل شيء يقضى فيه الوقت، ويشغل به العقل، فالتفكر في خلق السماوات والأرض يؤدي إلى الإيمان بوحدانية الله تعالى، ومعرفة عظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الاستفادة، والانتفاع بما في السماوات وما في الأرض من خيرات، ومنافع، وسنن، وقوانين، وظواهر، وهي لا شك مسخرة للإنسان، يقول الله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

وجاء في الأثر: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة» وعن ابن عباس رضي الله عنهما فيما أثر عنه أنه قال: «ركعتان مقتصرتان بتفكر أفضل من قيام ليلة بلا تفكر» وعن الحسن البصري قال: «تفكر ساعة خير من قيام ليلة».

ولقد وردت مادة فَكَّرَ: بمعنى أعمل عقله في القرآن الكريم ثماني عشرة مرة، في ثماني عشرة سورة بصيغ «فكر» و«يتفكرون» و«تتفكرون» و«أو لم يتفكروا» و«ثم تتفكروا» والتفكر معناه التدبر، والتأمل، والنظر، والاستدلال، والتبصر، والاجتهاد، وبمعنى آخر إعمال الفكر، وتفعيله، وتنشيط العقل، واستخدامه.

إن التفكر في الإسلام فريضة من فرائضه، وعبادة من عباداته، وشعيرة من شعائره، وأصل من أصوله، هي عبادة عالية القدر، جليلة الشأن، رحبة المعنى، واسعة المجال، عظيمة النفع، هي عبادة الأنبياء، والمرسلين، والعلماء، والصالحين، يثاب عليها المسلمون، ويؤجرون عليها، وبها يتقدمون حضاريًا في جميع المجالات المعنوية والمادية كما حدث في العصور الذهبية للإسلام. أما إن تركوها فإنهم يأثمون، ويتأخرون، ويتقهقرون إلى الوراء، ويتخلفون عن الركب البشري، والتقدم الحضاري،

وقد أثنى الله تبارك وتعالى على الذين يستعملون عقولهم الاستعمال الحسن، ويوظفونها التوظيف الموفق. يقول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

وقد وصف الله تعالى أولي الألباب بصفتين أساسيتين جامعتين لكل صفات الخير، وخصال البر هما؛ ذكر الله تعالى والتفكر في خلق السماوات والأرض يقول سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

مجالات التفكر

يقول الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) ينقسم العلم إلى ثلاثة أقسام هي: العلم بمخلوقات الله، والعلم بشرع الله، والعلم بذات الله، ويتحقق القسم الأول والثاني بالمدارسة والمذاكرة، بينما يتحقق القسم الثالث بالمجاهدة والمحاسبة.

ومجال التفكر إنما يكون في القسمين الأول، والقسم الثاني: أي التفكر في مخلوقات الله، والتفكر في شرع الله تعالى، ولا مجال للتفكر في ذات الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا في الخالق، فإنه لا يدرك إلا بتصديقه» رواه الربيع. رقم الحديث:823. وعليه فإن دائرة التفكر واسعة تشمل كل ما يدخل في قوتنا الإدراكية، أما ما يكون فوقها فلا يصح التفكر فيه، بل التفكر فيه إنما هو شطط، وغرور، يعود على صاحبه بالخسران، لأنه إقحام للعقل في عالم الغيب.

إن مجالات التفكر المشروعة كثيرة لا يحصيها إلا من أوجدها، وهو الله تعالى؛ فالسماوات بما تحتويه من مجرات، ونجوم، وشموس، وأقمار، وكواكب، ومذنبات، ومخلوقات، وكائنات منها ما يقع تحت العين المجردة، ومنها ما لا يقع تحتها، فهناك مخلوقات متناهية في الصغر، والحجم، وهناك مخلوقات بعيدة جدًا، كل ذلك وغيره مجال رحب للتفكر، والأرض وما فيها، وما عليها، وما يحدث فيها من ظواهر كونية كالرياح، والأمطار، والرعد، والبرق، وتعاقب الليل، والنهار، وتتابع الأيام، والشهور، والفصول، والأعوام، كل ذلك وغيره ميدان واسع للتفكر. هناك كتاب جليل القدر في هذا الشأن جدير بالاطلاع والقراءة عنوانه « الفكر والاعتبار» للشيخ درويش بن جمعة المحروقي رحمه الله تعالى.

فما من كائن مهما صغر إلا ولحكمة جليلة خلقه الله تعالى، تصب في مصلحة الإنسان؛ علمها هذا الإنسان أو لم يعلمها، وقد يعلمها ولو بعد حين، وفي ذلك الكائن من عجائب والأسرار ما يقف الإنسان أمامه متحيرًا وعاجزًا، ومسلمًا بوحدانية الله تعالى وقدرته وعظمته، فالمسلمون أمامهم كتابان للتفكر هما: الكون الواسع بأرضه، وسمائه، والقرآن الكريم المعجز بألفاظه، ومعانيه؛ فالكون هو كتاب الله تعالى المفتوح المنظور، والقرآن هو كتاب الله تعالى المسطور المقروء، والكتابان بحاجة إلى تفكر، وتدبر، وتأمل، ونظر، وتبصر؛ لاستخراج منافعهما، والانتفاع بخيراتهما، والاغتراف من معينهما الذي لا ينضب، فالكون الواسع المترامي الأطراف، والمتباعد الأرجاء، والمتباين الأنحاء، كله دال على وجود الله، وناطق بوحدانيته، وشاهد على عظمة قدرته، وسعة علمه، وجلالة حكمته.

وكل ذرة من ذرات الكون إنما هي تسبح بحمد الله تعالى، يقول الله سبحانه: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) والكون آخذ في التمدد والاتساع، يقول الله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ، وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

الكون كله مسخر للإنسان، يقول الله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).. وقد وضع الله سبحانه وتعالى في الكون قوانين ثابتة، وسننًا مطردة، إن أعمل الإنسان فيها فكره، واستخدم عقله استفاد منها فائدة عظيمة في حياته؛ تتمثل في زيادة إيمانه بالله تعالى، وخشيته منه سبحانه، وتقوية صلته بخالقه العظيم، وتتمثل في تمكينه من تحسين مستوى معيشته، وتطوير سبل العيش الكريم، وفي تسهيل له الكثير من المتاعب، والمصاعب، والمشاق، وفي تحقيق المزيد من الراحة والرفاهية، والرخاء، والازدهار، والتقدم في كل مجالات الحياة، يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ).

أما القرآن الكريم فهو معجزة الإسلام الخالدة؛ لا تنتهي عجائبه، ولا تتقضى أسراره، يقول الله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، ويقول تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)، ويقول تبارك وتعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).. يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في مدخل تفسيره « خواطر إيمانية»: «القرآن له عطاءان في الإعجاز.. العطاء الأول آيات في الآفاق، وهذه هي الآيات الكونية.. والعطاء الثاني «آيات في أنفسهم» وهذه هي الآيات التي تتعلق بأسرار الجسد البشري.. ولقد أعطى الله تبارك وتعالى من آيات الكون المؤمنين.. فبرع المسلمون الأوائل في العلوم.. مثل جابر بن حيان الذي وضع أساس علم الكيمياء.. وابن سينا الذي وضع أساس علم الطب والفلك والرياضيات.. وابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية ووصفها وصفًا علميًا دقيقًا.. وابن الهيثم الذي برع في الرياضيات والطبيعيات والطب.. وكان أول من شرح تركيب العين وكيف تعمل، وأبو القاسم الذي نبغ في العمليات الجراحية وغيرها».

المسلمون والتفكر

لم يكن للعرب قبل الإسلام رصيد علمي حضاري، إلا ما كان لهم من الشعر، والخطب، والحكم، والأمثال، وبمجيء الإسلام أدرك السلف الصالح لهذه الأمة قيمة التفكر، وأهميته، ومدى اهتمام الإسلام به، فكانوا مثالًا يحتذى، إذ قدموا للبشرية نتاجًا فكريًا علميًا متميزًا في كل المجالات، وأسهموا إسهامًا علميًا حضاريًا بارزًا باهرًا، لولاه لتأخرت النهضة العلمية الحديثة عدة قرون، لقد حول العلماء المسلمون الأوائل بوصلة البحث العلمي من الجانب النظري التجريدي، إلى الجانب العلمي التطبيقي، فهم الذين أسسوا المنهج التجريبي في البحث العلمي، يقوم هذا المنهج على النظر، والمشاهدة، والملاحظة، والرصد، والاستقصاء، والتجربة، وهم بهذا المنهج أحدثوا نقلة توعية هائلة في منهج البحث، وتلك حقيقة يعترف بها من أخذ عنهم هذا المنهج.