هل الديمقراطية الليبرالية تحتضر؟

01 أكتوبر 2022
01 أكتوبر 2022

ترجمة أحمد شافعي -

في عطلة الأسبوع الماضي، سلَّم الناخبون في إيطاليا زمام الحكم لتحالف يقوده حزب ينحدر مباشرة من دكتاتورية بينيتو موسوليني الفاشية، محققين بذلك أحد أضخم الانتصارات لحزب يميني متطرف في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. "فاليوم يوم حزين لإيطاليا" كما قال زعيم الحزب الديمقراطية المنتمي إلى يسار الوسط في إيطاليا والذي كان خلال الحملة قد وصف المنافسة بأنها لا تقل عن قتال من أجل الديمقراطية في إيطاليا.

لو أن هذه اللغة تبدو مألوفة للأذن في أمريكا، فذلك لأن بلادا في مختلف أنحاء العالم، ومنها الولايات المتحدة، تواجه ما يقول خبراء العالم إنه موجة من التراجع عن الديمقراطية. وبحسب بيانات من مؤسسة "في ديم" V-Demالرقابية القائمة في السويد ـ حيث يتصادف أن حزبا يمينيا متطرفا له جذور في النازية الجديدة قد حقق أداء انتخابيا قويا قبل أسبوعين ـ فإن عام 2021 شهد من تدهور النظم الديمقراطية، بل وانزلاقها إلى الدكتاتورية، أكثر مما شهد أي وقت آخر على مدار الأعوام الخمسين الماضية.

فما الذي يفسر العودة عالميا إلى السياسات الاستبدادية، وما الذي ينذر به ذلك بالنسبة لمستقبل الديمقراطية؟ إليكم ما يقوله الناس.

الديمقراطية الليبرالية في انحسار

نادرا ما شهدت القرون القليلة الماضية انتشارا ثابتا للديمقراطية، إنما هو مد وجزر أمام قوى الأوتقراطية المنافسة. ويقسم أساتذة العلوم السياسية تقدم الديمقراطية إلى موجات ثلاث: الأولى تبدأ في القرن التاسع عشر، والثانية تبدأ بعد الحرب العالمية الثانية، والثالثة تبدأ في أواسط السبعينيات وقد بلغت ذروتها في عام 2012 بوجود اثنتين وأربعين دولة ديمقراطية ليبرالية، وهو رقم قياسي الارتفاع. اليوم لا يوجد غير 34 دولة ديمقراطية ليبرالية، وذلك هبوط إلى العدد الذي كان قائما في عام 1995 وفقا لمؤسسة "في ديم". (كما انخفض نصيب المقيمين في ديمقراطيات ليبرالية خلال العقد الماضي إلى 13% سكان العالم بعد أن كان 18%).

ومثلما أوضحت أماندا تاوب في نيويورك تايمز، فإن هذا الانحدار الديمقراطي الأخير ـ الذي يقول بعض الباحثين إنه يمثل "موجة استبدادية ثالثة" (إذ بدأت الأولى في عشرينيات القرن العشرين والثانية في الستينيات منه) لم يكن دافعها الأساسي انقلابات أو ثورات وإنما أفعال مسؤولين منتخبين انتخابا شرعيا فهم "لا يكادون يتولون السلطة، حتى يكون بوسع أولئك القادة معدومي الضمير أحيانا أن يتلاعبوا بالبيئة السياسية لمصلحتهم الخاصة، رافعين إمكانية أن يحققوا الانتصار في منافسات مستقبلية. وبفوزهم في تلك الانتخابات، يحصلون على خاتم الشرعية الديمقراطية، بل والشرعية اللازم للقيام بأفعال هي في نهاية المطاف تقوض المعايير الديمقراطية".

أبرز الممارسين لهذا اللون من "الأوتقراطية اللينة" عبر الانتخابات في أوروبا هو رئيس وزراء المجر فكتور أوربان. فبعد انتخابه في 2010، عمل على إقامة ما يسميه "الديمقراطية غير الليبرالية" من خلال نيله من الحريات المدنية وحرية الإعلام وإخضاعه للقضاء وإعادته هيكلة النظام الانتخابي في بلده. وفي ثنايا ذلك بات نموذجا لليمين المتطرف في شتى أرجاء العالم ومنه الولايات المتحدة.

بدرجات متفاوتة يتضح انحدار المعايير الديمقراطية الليبرالية في كل منطقة تقريبا:

• في الهند، أشرف رئيس الوزراء ناريندا مودي ـ المنتخب في عام 2014 ـ على ارتفاع حاد في القومية الهندوسية، وما استتبع ذلك من عواقب عنيفة ومميتة في كثير من الحالات، وبيئة تعبيرية مكبوتة.

• في الفلبين، انتخب الناخبون أخيرا ابن دكتاتور سابق ليخلف رودريجو دوتيرتي الذي قاد حملة صارمة خلال سنواته الست في الرئاسة على الإعلام وشن حربا على المخدرات أدت إلى آلاف القتلى.

• في السلفادور، قام الرئيس نجيب بوكيلة ـ المنتخب في 2019 ـ بنشر الجيش في الكونجرس للضغط على النواب، وتحدى محاولات المحكمة العليا لتحجيم استعماله للقوة العسكرية وحبسه الآلاف دون إجراءات كافية بموجب حالة طوارئ بسبب حرب العصابات.

وهناك بالطبع الولايات المتحدة حيث حذر أساتذة العلوم السياسية من اتجاه سابق على دونالد ترامب لكنه تسارع في ظل رئاسته، ويشهد تضاؤل التزام الحزب الجمهوري بالمعايير الديمقراطية الليبرالية وتتشابه رسائله الحالية مع رسائل الأحزاب الاستبدادية من عينة حزب أوربان.

لكن خلافا للأحزاب الحاكمة في كثير من الديمقراطيات المتراجعة، تمكن الحزب الجمهوري من الفوز بالسيطرة على الحكم دونما استناده إلى أغلبية شعبية. ومثلما كتب ديفيد ليونهارت في نيويورك تايمز أخيرا، فبسبب تلاقي اتجاهات الفرز الجغرافي وانحياز الدولة الصغيرة للكونجرس والمجمع الانتخابي، فإن كل فرع في الحكومة الأمريكية الآن يحابي أحد الحزبين (الجمهوري) على الآخر (الديمقراطي) على نحو لم يكن قائما في أغلب تاريخ البلد.

قال ستيفن ليفتسكي أستاذ الحكم في هارفرد لليونهارت "إننا إلى حد كبير أكثر ديمقراطيات العالم مناهضة للأغلبية".

ما الذي يدفع الديمقراطيات إلى الأوتقراطية؟

ما من نظامين ديمقراطيين تراجعا لأسباب واحدة، ومع ذلك وضع أساتذة العلوم السياسية وآخرون بعض الثيمات الشائعة. منها رد الفعل على التهديدات، سواء أهي حقيقية أم متخيلة، لإحساس الأغلبية بالهوية الوطنية.

ولقد أوضح ماس فيشر الذي كتب كثيرا في نيويورك تايمز خلال الفترة الأخيرة عن تراجع الديمقراطيات عالميا أن "المجتمع يستقطب أولا، وكثيرا ما يكون ذلك رد فعل على تغير اجتماعي، أو تغير ديموجرافي، لتقوية السلطة السياسية من خلال أقليات عنصرية أو عرقية أو دينية وذلك بصفة عامة وسط غياب متزايد للثقة الاجتماعية. ويؤدي هذا إلى رغبة شعبية في دخلاء شعبويين يعدون بمواجهة التهديد المفترض، بما يعني قمع الجانب الآخر من ذلك الانقسام الاجتماعي أو الحزبي أو العنصري، وتأكيد رؤية للديمقراطية تمنح مكانة خاصة لـ’جانبي’، وتسحق المؤسسات أو المعايير الديمقراطية التي تمنع ذلك الجانب من تأكيد ما يعد سيطرته المستحقة".

كيف تدخل الطبقة في الصورة؟ وضع بعض الباحثين رابطا نظريا بين تراجع الديمقراطية والكساد الكبير، إن لم يكن رأسمالية السوق الحرة العالمية نفسها. ففي الهند على سبيل المثال، ذهب ديباسيش روي تشودري في الشهر الماضي في مقال نشره بنيويورك تايمز إلى أن "السياسات النيوليبرالية زادت من التفاوت، مع تراجع الدولة عن مسؤولياتها الأساسية من قبيل الصحة والتعليم". واستمر يقول إن "هذا ينشئ حياة مهانة وضعف لملايين ممن يلجأون إلى هوية جماعية، وينجذون إلى الزعماء الأقوياء ليدافعوا عنهم ضد جماعات أخرى ويسهل أن يتحولوا إلى مدمنين على أفيون الكراهية الدينية الجماعية التي باتت تستعمل الآن لإعادة تعريف الهند العلمانية باعتبارها دولة هندوسية".

وبنظرة أخرى مادية، يوعز ريتشارد بيلدس أستاذ القانون الدستوري في كلية القانون بجامعة نيويورك صعود القوى المناهضة لليرالية إلى تشتت السلطة السياسية بين عدد متنام من الأحزاب السياسية ويذهب إلى أن ذلك يحد من قدرة الحكومات الديمقراطية على العمل بفعالية. وقد كتب في نيويورك تايمز العام الماضي أن "الحكومات الديمقراطية عندما تبدو عاجزة عن تحقيق وعودها، فقد يؤدي هذا الفشل إلى اغتراب، واعتزال، وانعدام ثقة، وانسحاب مواطنين كثيرين، وقد يؤدي أيضا إلى مطالبات للزعماء الاستبداديين الذين يعدون بالابتعاد عن السياسات الفوضوية. وفي الحد الأقصى، يمكن أن يؤدي إلى التساؤل عن الديمقراطية نفسها والانفتاح على أنظمة حكم مناهضة للديمقراطية".

هل يمكن إيقاف تراجع الديمقراطية؟

لقد أوضح لنا التاريخ أن منحنى الحضارة الإنسانية لا يميل حتما إلى الديمقراطية الليبرالية. لكن ميله إلى الأوتقراطية مستبعد كثيرا هو الآخر. في واشنطن بوست، لاحظ ميجيل أنجي لارا أوتاولا أنه خلال هذا العام، و منذ عام 2000، وحتى مع أن تراجع الديمقراطية أصبح الاتجاه العالمي الغالب، تمكنت تسعة بلاد من الرجوع إلى الديمقراطية بعد فترة استبداد. وقال إن "هذه البلاد تبين لنا أن الديمقراطية مرنة وأن بوسع البلاد أن ترجع إلى الديمقراطية وأنها تفعل ذلك".

اقترحت المنظمة التي يعمل فيها أوتاولا ـ وهي معهد الديمقراطية والدعم الانتخابي ـ أفكارا كثيرة لإيقاف وعكس التراجع الديمقراطي، منها الاستثمار في التعليم المدني، وإصلاح قوانين تمويل الحملات الانتخابية، وتقوية التنسيق بين المؤسسات الدولية صاحبة مبادرات لحفظ السلام مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي والاتحاد الأفريقي. وذهب خبراء آخرون إلى إلغاء نظام الحزبين، ومزيد من التنظيم لشركات التكنولوجيا العملاقة وفرض عقوبات مالية على الحكومات المتراجعة.

غير أن هناك من يؤمنون بأن الإصلاحات التكنوقراطية لا تتكافأ مع المشكلة. في مقالة له سنة 2006، قدم الكاتب الهندي بنكاج ميشرا تراجع صحة الديمقراطية في العالم باعتباره أزمة في أيديولوجية ليبرالية السوق الحرة الحديثة ذاتها فقال إن "دين التكنولوجيا وإجمالي الدخل الوطني وحساب المصلحة الذاتية الصرف الذي تأسس في القرن التاسع عشر" لا يمكن أن يقدم جوابا شافيا لغضب من يشعرون أنهم تخلفوا عن الركب بسبب الاضطرابات وانعدام المساواة التي جلبتها رأسمالية العولمة.

ولرسم ملامح طريق للتقدم، فإن من يؤمنون بمبادئ الديمقراطية الليبرالية بحاجة "في المقام الأول إلى صورة أغنى وأكثر تنوعا للتجربة والاحتياجات البشرية من الصورة السائدة للإنسان الاقتصادي". وقد ذهب ميشرا إلى أننا "بافتتاننا العقيم بالدوافع والنتاجات العقلانية، نخاطر بأن نشبه الملاحين الأشقياء الذين كتب عنهم دي توكفيل أنهم "يحملقون معاندين في بضع أطلال هي الباقية على شاطئ تركوه، بينما يسحبهم التيار راجعا إلى الهاوية".

• سبنسر بوات ليندل كاتب ومحرر في نيويورك تايمز

** "خدمة نيويورك تايمز" ترجمة خاصة بجريدة عمان