هذا أو الطوفان.. هذا أو الكارثة!

04 ديسمبر 2021
04 ديسمبر 2021

هذا هو ناقوس الخطر يدق بيد المفكر الحر وهو يرى مجتمعه على حافة الهاوية، فيجرد قلمه ويصيح فينا بهذه العبارة: «هذا.. أو الطوفان»! ثم يأتي مفكر حر آخر ليرى الخطر لا يزال محدقا، فيعيد على مسامعنا الصيحة نفسها وإن اختلفت الألفاظ: «مجتمع جديد أو الكارثة»! كانت الصيحة الأولى هي عنوان كتاب شهير أصدره في خمسينيات القرن الماضي «خالد محمد خالد»، أما الثانية فعنوان كتاب أصدره «زكي نجيب محمود» عام 1978، أي بعد حوالي ربع قرن من الصيحة الأولى؛ معترفا أنه اقتبس ذلك العنوان من كتاب مترجم لفريق من العلماء والباحثين، يقترحون فيه الأسس النظرية التي يمكن أن يقام عليها مجتمع جديد في أمريكا اللاتينية.

وبعد سنوات قلائل تتكرر الصيحة للمرة الثالثة، وكان الصائح هذه المرة هو شهيد الرأي الحر: «فرج فودة» في: (قبل السقوط)، ثم في: (نكون أو لا نكون). ويبدو أن الناقوس الذي لم تتوقف دقاته المنذرة بالخطر منذ حوالى ستة عقود، لم يفلح بعد في إيقاظنا من سباتنا الطويل لنتنبه إلى الطوفان القادم، أو الكارثة المحققة، أو الضياع الوشيك!

لقد كان الخطر الذي حذرنا منه بقوة وإصرار هؤلاء المفكرون الأحرار، واحدا في جوهره، فهو ماثل في غياب حياة العقل والحرية والعدل، لصالح حياة الخرافة والاستبداد والقهر على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي؛ غير أن استجابتنا السلبية لصيحات التحذير ظلت كما هي، ولو وجدت صيحة «خالد محمد خالد» في «هذا.. أو الطوفان» آذانا مصغية، لما احتاج «زكى نجيب محمود» إلى أن يكتب: «مجتمع جديد.. أو الكارثة»؛ ولا احتاج «فرج فودة» إلى أن يكتب: «قبل السقوط»؛ فكيف بقينا هكذا لا نحرك ساكنا عقودا بعد عقود! وإن تحركنا بعد سكون، تجيئ حركتنا دائما إلى الخلف! فنسير القهقرى خطوات باتجاه الماضي، في عالم يغذ الخطى كل يوم، بل كل لحظة باتجاه المستقبل؟!

ربما يصدمنا حال هذه الأمة التي جعلت أصابعها في آذانها واستغشت ثيابها، فتخلفت عن ركب الحضارة الإنسانية، وأصبحت تعيش عالة على عصرها، على الرغم من أن الله قد وهبها من رسل الحرية وحملة مشاعل العقل من ينبهونها ويستنهضونها بالصيحة بعد الصيحة، ولكن لا حياة لمن تنادى!

وتترامى أصداء صيحات أخرى تحذرنا من التخلي عن العقل وإلا دفعنا الثمن باهظا، حيث يصغى أستاذنا هذه المرة لصوت «محمد إقبال» يتناهى إليه من وراء الحدود، لينبه إلى أن الإسلام ما كان له أن يصبح خاتمة الأديان، إلا لأنه قد ترك التحكيم للعقل، وليس لتقاليد الأسلاف؛ إذ لو كانت التقاليد هي مدار الحكم فيما يجوز ولا يجوز، لكان الناس بحاجة إلى رسول جديد كلما اقتضت ظروف الحياة الجديدة معايير جديدة، غير المعايير التي جسدها الأسلاف في تقاليدهم. توالت صيحات التحذير عقدا وراء عقد؛ وكلها يدور حول الفكرة الأساسية نفسها: إما نور العقل.. أو الاستسلام لظلام الخرافة! فماذا عسى كانت الاستجابة؟

لنعد مرة أخرى إلى العام 1977، إلى «زكى نجيب محمود» وهو يقلب صفحات عدد جديد من مجلة ثقافية واسعة الانتشار، فإذا بمقال أداره كاتبه حول البحث في زراعة الأرض من وجهة نظر الإسلام، أتجوز هي أم لا؟! ولم يدخر الكاتب الفاضل وسعا في حشد النصوص والشواهد التراثية التي تدل على أن الزراعة جائزة شرعا؛ والحمد لله الذي وفقه في مسعاه الخطير، وإلا أصبحت زراعة الأرض حراما على المسلمين!

هل صدم القارئ الكريم؟! وهل أحس بإهانة كبرى لعقله باسم الدين؟! فليستجمع نفسه ويستعد ليتلقى صدمة أخرى: هؤلاء هم جماعة من الطبقة الفكرية المثقفة في قمتها، وجد مفكرنا المصدوم نفسه بين أفرادها وهم حول مريض منهم يستعد لإجراء عملية جراحية، فإذا بأحدهم ينبرى ليقدم له عنوانا، ليس لمستشفى متميز مشهود له، ولا لعيادة أحد الجراحين المهرة؛ وإنما لجراح بلا مشارط، من خبراء تحضير الأرواح؛ مؤكدا أنه قد شفى على يديه بعد عملية جراحية في الأمعاء، أجراها له بغير مشرط، بل دون أن ينزع عنه شيئا من ملابسه!

هل يا ترى ما زلت قادرا على تلقى صدمة أخرى؟ إذن إليك بهذا الأستاذ الجامعي الذي استمع إليه مفكرنا الكبير يناقش مع صاحبيه قضية زواج الإنس من الجن؛ وقد انعقد الاتفاق بين ثلاثتهم على أن الرجل من الإنس بوسعه أن يتزوج جنية، فالأستاذ الجامعي يؤكد لهم أنه قد مر فعلا بتلك التجربة، أما زواج الجنى من إنسية، فهو ما كانوا لا يزالون يبحثون إمكان وقوعه!

ولعلنا اليوم في حال أشد بؤسا وتعاسة من تلك التي عانى منها خالد محمد خالد، ثم زكى نجيب محمود، ومن جاء بعدهما من أعلام المفكرين العرب؛ فقد بدأ أعداء العقل يلوحون بسيف التكفير في وجه كل من تسول له نفسه أن أن يفكر، أو يعمل عقله في سائر ما يروجون له من خرافات! وليس أمامنا إلا أن نتصدى جميعا لطوفان الظلام!