مؤشرات تتقلص.. والقرار أمريكي!!

20 نوفمبر 2023
20 نوفمبر 2023

في ظل حقيقة أن هجوم حماس في السابع من الشهر الماضي ضد إسرائيل كان مباغتا على نحو مرغ كرامتها وسمعتها في التراب، وأثار في الواقع رغبتها في الانتقام والرد أكثر من أي شيء آخر، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي إلى وصف العمليات الإسرائيلية ضد قطاع غزة بأنها كانت «هجمات عشوائية مدفوعة بروح الانتقام» وهو انتقاد له دلالته عندما يوجه للقوات الإسرائيلية، خاصة إذا تحدث مسؤولون أمريكيون قبل ذلك عن اعتقادهم بأن الإسرائيليين لا تتوفر لهم رؤية أو خطة محددة لإدارة الحرب في الأسابيع الأولى منها بفعل المفاجأة، فإنه من الواضح إلى حد كبير أن العشوائية في الهجمات التي تشنها إسرائيل ضد مرافق قطاع غزة وبنيته الأساسية لا يزال يسيطر عليها القلق، والرغبة في الانتقام والحاجة إلى استعادة الهيبة السابقة لإسرائيل وسقطت في هجمات السابع من أكتوبر، لا تزال قائمة وتنعكس في همجية وتخبط العمليات الإسرائيلية في غزة والتغيرات التي جرت في التصريحات التي حاولت تحديد الأهداف الإسرائيلية وتكرار التأكيد على استئصال حماس تارة والإجهاز على قياداتها الرئيسية تارة أخرى، وإن القطاع بعد الحرب لن يكون هو قبلها، ومع ذلك فإن هذا النمط من التصريحات الموجه للساحة الإسرائيلية الداخلية لتهدئتها قل بشكل ملحوظ في الأيام الأخيرة حسبما أشارت إليه تصريحات قيادات إسرائيلية في ظل زيادة التركيز على أولوية العمل من أجل إطلاق سراح الجنود والضباط الذين تحتجزهم حركة حماس وبعض الفصائل الفلسطينية الأخرى. ومع استمرار همجية الهجمات الجوية والبرية والبحرية الإسرائيلية وتجردها أيضا من أية مشاعر إنسانية خاصة ضد الأطفال والنساء وكبار السن فإن ذلك انعكس سلبا في الواقع على إسرائيل وزاد من التعاطف الجماهيري الشعبي مع الفلسطينيين وعلى نحو شارك فيه بعض العاملين في مؤسسات حكومية، كما حدث في بريطانيا على سبيل المثال مما تسبب في الإطاحة بوزيرة الداخلية السابقة بسبب موقفها الناقد للمظاهرات التي أبدت تعاطفا مع الفلسطينيين حيث لم ترحب به الوزيرة البريطانية السابقة. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى بعض الجوانب لعل من أهمها ما يلي:

أولا، إنه في الوقت الذي حرصت فيه القوى الغربية المؤيدة لإسرائيل وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا على تأكيد الدعم العلني لإسرائيل في قتالها لحركة حماس فإن مؤشرات عدة ظهرت على الصعيد العملي ظهرت فيها ملامح تشير إلى تغير ما في مواقف هذا الطرف أو ذاك أو على الأقل في صياغة المواقف السابقة له وذلك نتيجة الضغوط المتزايدة لمواقف الرأي العام الشعبي ومراعاته وتعاطفه مع معاناة الفلسطينيين. وهنا حدثت تباينات بشكل أو بآخر بين المواقف الرسمية للحكومات المؤيدة لإسرائيل وبين شرائح مواطنين متزايدة مؤيدة للفلسطينيين أو على الأقل رافضة للسلوك الهمجي الإسرائيلي ضد مواطني قطاع غزة، ومع زيادة وضوح الشرخ في المواقف الحكومية الرسمية والشعبية زاد الإدراك الشعبي لأهمية وتأثير مواقف الجماهير وما يمثله الإعلام من دور مؤثر أو يتجاوز مواقف الحكومات بشكل أو بآخر. ومن أبرز الأمثلة في هذا المجال مواقف الولايات المتحدة ذاتها والتي ترتبط بدرجة كبيرة بثقل ودور وتأثير الولايات المتحدة في مشكلات العالم وتأثيرها في مختلف القضايا الإقليمية والعالمية، سياسية واقتصادية وعسكرية وتقنية وبيئية وحدودية وغيرها. والمتتبع للمواقف التي اتخذتها واشنطن منذ السابع من أكتوبر الماضي يمكنه أن يلمس تغيرات عدة في إطار الحدود التي دار الموقف الأمريكي في نطاقها، من التأييد المطلق للموقف الإسرائيلي والتماهي التام معه حتى في مفردات ومصطلحات التعبير عنه وصولا إلى التغيرات الدقيقة وذات الدلالة في جزئيات الموقف وشروطها المختلفة والضرورية لها بما في ذلك الموقف من التهجير القسري للفلسطينيين والموقف من إمدادات الماء والغذاء والكهرباء إلى مواطني غزة، وحتى من وقف إطلاق النار في غزة وشروطه وصولا إلى طرح مشروعات قرارات حول التطورات في غزة واقتراح صيغ للحكم في القطاع بعد الحرب، ومن يمكن أن يحكم القطاع في المستقبل ودور القوى المختلفة إقليمية ودولية في هذا المجال. جدير بالذكر أنه بالرغم من قوة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية والانحياز القوي والمعلن من جانب الرئيس بايدن، مما أثار غضب نسبة غير قليلة من الأمريكيين من إدارة بايدن مما اضطرها إلى إعلان معارضتها حكم الإسرائيليين لغزة أو ضمهم لأجزاء منها مع تلك التي سبق واتخذتها إدارة بايدن والتأكيد عليها في كل مناسبة بما في ذلك على الدعم القوي والمتواصل لإسرائيل ولحقها في الدفاع عن النفس وفق المفهوم الغربي بالطبع، وقد أدى ذلك إلى نشوب خلافات، عمل نتانياهو على الحفاظ عليها طي الكتمان نظرا لأن المواقف الأخيرة تختلف عن المواقف التي سبق إعلانها في بداية الحرب. ومع ذلك تحدثت كل من صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية والجارديان البريطانية عن عدم استجابة نتانياهو لمطالب بايدن بالحد من خسائر المدنيين ووصفت ذلك بأنه «خلاف وجبهة بين الدولتين الصديقتين». ومن جانب آخر أدخلت فرنسا تعديلات على موقفها الداعم لإسرائيل مما أثار خلافات مع إسرائيل وهو ما اضطر ماكرون إلى التراجع عن ذلك. وبينما تمسكت ألمانيا وبريطانيا بمواقفهما السابقة دعت إسبانيا ودول أخرى إلى مواقف أكثر اعتدالا مع الفلسطينيين وحثت إسبانيا على بحث الأمم المتحدة مواقف أخرى أكثر تعاطفا مع القضية الفلسطينية داخل الأمم المتحدة وخارجها. منها الاعتراف بدولة فلسطينية للاستفادة من الزخم المحيط بالقضية في الظروف الراهنة.

ثالثا، إنه في الوقت الذي اعتمدت فيه إسرائيل على التأييد القوي لها من جانب واشنطن وحلفائها المؤيدة لها وهو ما شجعها ولا يزال يشجعها على تنفيذ سياساتها الهمجية ضد الشعب الفلسطيني، فإن الحالة التي يمر بها النظام الدولي في المرحلة الراهنة وحالة الاستقطاب بين أمريكا وحلفائها من ناحية وبين الصين وروسيا من ناحية أخرى قد شجعت إسرائيل وتشجعها على الاستهانة بالقانون الدولي الإنساني وبالأمم المتحدة ومؤسسات النظام الدولي ومن الطبيعي أن تشعر إسرائيل بأن واشنطن توفر لها سياجا يحميها إقليميا ودوليا داخل وخارج الأمم المتحدة رغم أية خلافات بينهما وتكفي حاملات الطائرات والسفن الحربية وأنظمة الصواريخ التي حشدتها واشنطن وحلفاؤها منذ بداية القتال لمنع تدخل أطراف أخرى في القتال والحفاظ على مصالح أمريكا وإسرائيل مهما تجاوزت إسرائيل في أعمالها الإحرامية، وليس غريبا أن يعترف الرئيس الأمريكي بعد نحو شهر ونصف الشهر من القتال في غزة أنه قد حدثت حالات تجاوز في القتال وأنه ينبغي الحد من خسائر المدنيين في غزة.

وبالرغم من تقدير الجهود التي تقوم بها الأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بحقوق الإنسان وتوفير المساعدات الإنسانية للنازحين واللاجئين وضحايا الحروب وكذلك الدور الذي قام ويقوم به غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة لفضح الممارسات الإسرائيلية التي تخالف كل القوانين والشرعية الدولية تمهيدا لمحاكمة إسرائيل أمام محكمة الجنايات الدولية عندما تكتمل الوثائق اللازمة، لذلك فإن النجاح في هذه المهمة لن يتم إلا إذا حظي بتأييد ودعم الولايات المتحدة والدول الكبرى والمؤثرة في الأمم المتحدة، إذ إنه طالما توفر واشنطن الحماية القانونية والسياسية لإسرائيل فإنه سيكون صعبا إلى حد كبير أن تتم محاكمة إسرائيل أو محاسبتها أمام محكمة الجنايات الدولية، التي لا تشارك أمريكا ولا إسرائيل في عضويتها. ومع إدراك آليات العمل في الأمم المتحدة فإن الدور والتأثير الذي تمارسه واشنطن في عملية صنع القرار في الأمم المتحدة وفي العديد من المنظمات الإقليمية والدولية هو دور شديد التأثير في عمل وأداء وتوجهات وفعالية تلك المنظمات الدولية، وإلا كان من الممكن محاسبة الولايات المتحدة على ما ترتكبه من مخالفات وانتهاكات للقانون الدولي وما ينسحب على أمريكا ينسحب أيضا على إسرائيل التي تخدم بالتأكيد المصالح الأمريكية والغربية إلا إذا تعثرت العلاقات أو حدثت خلافات حادة بين الجانبين وهو ما يصعب حدوثه في ظل المعطيات الراهنة حتى الآن أو في المستقبل المنظور على الأقل خاصة أن كلا الطرفين يحرص تماما على الحفاظ على مصالحهما المتبادلة اليوم وغدا وفي المستقبل أيضا.