في تناقضات كونديرا نعثر على حقائقه

17 يوليو 2023
ترجمة: أحمد شافعي
17 يوليو 2023

ذات مرة قال الروائي ميلان كونديرا لزميله الروائي فيليب روث إنه «يجب تعليم القارئ أن يفهم العالم باعتباره سؤالا». كان يخشى أنه في عالم «يفضل فيه الناس إصدار الأحكام على الفهم، والإجابة على السؤال، يصعب الإنصات لصوت الرواية وسط حماقة اليقين البشري الصاخبة».

صوحبت وفاة ميلان كونديرا في الأسبوع الماضي بالعديد من المراثي الناطقة بالاحترام له. ولكن خفة هذه المراثي أوضحت أيضا أن كونديرا لم يعد يشغل من ثقافتنا المكانة التي كان يشغلها من قبل. فصوت كونديرا أيضا بات أقل حضورا وصدى في عالمنا الصاخب.

ولد في برنو سنة 1929 في ما كان يعرف بتشيكوسلوفاكيا، وانضم إلى الحزب الشيوعي وهو في الثامنة عشرة من عمره، بتأثير من قدرات الاشتراكية في غداة الاحتلال النازي والهولوكوست. وقد كتب بعد عقود يقول إن «الشيوعية سحرتني بمثل ما سحرني سترافينسكي وبيكاسو والسريالية. فلقد كانت وعدا بتحول إعجازي كبير، إلى عالم جديد مختلف. لكن حدث أن استولت الشيوعية فعلا على بلدي، وبدأ عهد الإرهاب».

طرده الحزب في عام 1950 بسبب «أنشطة مناهضة للحزب»، لكنه عاود الانضمام وبقي عضوا حتى طرده مرة أخرى سنة 1970 بعد سحق قوات الاتحاد السوفييتي لربيع براج. وبعد خمس سنين رحل كونديرا إلى فرنسا ليصبح أخيرا مواطنا فرنسيا.

بلغت شهرة كونديرا أوجها في ثمانينيات القرن الماضي، حينما كان ثمة أمر ملح في استكشافه أسباب البقاء في مواجهة الشمولية. في سلسلة من الروايات، بدءا بـ«المزحة» التي كتبت في أوائل الستينيات ثم لم تنشر حتى عام 1967، وحتى أشهر أعماله «خفة الكائن» المنشورة بالفرنسية سنة 1984، عرض من خلال الكوميديا السوداء صراعات الحياة في ظل الحكم الستاليني وما تنطوي عليه من أوجه العبث. ومع انحسار الحرب الباردة إلى الخلفية بدا أن كونديرا وثيماته وأسلوبه باتوا ينتمون إلى عصر مختلف. وبدأ كثير من النقاد يركزون على سمات أخرى أقل إثارة للإعجاب في كتابته، وبخاصة تناوله العدائي، بل القاسي، للشخصيات النسائية.

غير أن في قلب أعمال كونديرا، سواء مقالاته أم رواياته، فئة أخرى من الأفكار والتأملات التي لم تزل مهمة لعالمنا اليوم بقدر أهمية بقره بطن الشمولية في الثمانينيات، ومن ذلك استكشافه للعلاقة بين الثقافة والتاريخ والذاكرة والهوية. ولا تأتي أهمية هذه الأفكار من تقديمها إجابات صلبة للأسئلة التي نواجهها وإنما لامتلائها ـ شأن كثير من أعمال كونديرا ـ بالغوامض والمفارقات التي تساعد على مزيد من الإضاءة للأسئلة نفسها.

«إن هوية الناس والحضارات تنعكس وتتركز في ما أبدعه العقل، في ما يعرف بـ’الثقافة’»، هكذا كتب كونديرا في مقالة «الغرب المختطف» التي نشرها للمرة الأولى في مجلة لو ديبات Le Débat الفرنسية المهمة، وكانت تلك المقالة تطويرا لحجة ظل كونديرا يتعهدها لسنين كثيرة.

فقبل قرابة عقدين كان قد أشار في خطاب موجه لمؤتمر الكتاب التشيك سنة 1967 إلى أن الثقافة ضرورية لـ«تبرير هويتنا الوطنية وصونها»، إذ إنه فقط من خلال حماية «اللغة والهوية» يمكن للأمم الصغيرة أن تحافظ على «قيم»ـها.

كان كونديرا يرى أن أمم أوروبا الوسطى لا بد أن تحافظ لا على ثقافاتها المحددة وحدها، وإنما على ارتباطها بأوروبا. غير أن «مأساة أوروبا الوسطى» لا تتمثل فقط في أن الاتحاد السوفييتي ابتلعها فـ«اختفت من خريطة الغرب» وإنما في أن «هذا الاختفاء بقي غير مرئي» وغير ملحوظ تقريبا. لماذا؟ لأن أوروبا نفسها ـ في ما رأى كونديرا ـ كانت «تفقد هويتها الثقافية». ووجدت «وحشة هائلة، فجوة في الفضاء الأوربي أخذت الثقافة تنحسر عنها ببطء».

قد يبدو هذا كله أشبه برؤية محافظة للثقافة والهوية مستلهمة من الرومنتيكية الأوروبية، ومن فكرة أن كل شعب يتحدد بفعل تاريخ وثقافة فريدتين لا بد من حمايتهما من الانتهاك الخارجي. غير أنه ما من شيء لدى كونديرا على هذا النحو من المباشرة. فعلى الرغم من إصراره على أن الثقافة ضرورية «لتبرير وحماية هويتنا الوطنية»، كان كونديرا عميق العداء لفكرة قصر الثقافة داخل الحدود الوطنية. وقد اتخذ شعارا له من قناعة جوته بأن «الأدب الوطني لم يعد يعني الكثير اليوم» لأننا «ندخل إلى حقبة الـ فيلليترتشر ـ أي الأدب العالمي ـ ويرجع إلى كل منا أن يعجِّل بهذا التطور». وقد نبذ كونديرا «عجز المرء عن رؤية ثقافته في سياق أكبر» واعتبر ذلك «إقليمية».

والحق أنه برغم إصرار كونديرا على الحاجة إلى الحفاظ على تفرد أمم أوروبا الوسطى، فإنه كان يتشكك في فكرة «الوطن» نفسها أو «أرض الوطن». وقال في حوار «إنني أتساءل لو أن فكرتنا عن الوطن ليست في نهاية المطاف وهما، أسطورة. أتساءل عما لو أننا ضحايا لتلك الأسطورة. أتساءل لو أن أفكارنا عن جذور ـ d’être enraciné ـ ما هي إلا وهم نتعلق به».

وقد يكون مفهوم أوروبا لدى كونديرا متناقضا بالقدر نفسه. فهو لم يتكلم عن «أوروبا الشرقية» بل كان دائم الكلام عن «أوروبا الوسطى» للتفرقة بصورة أشد حدة بين الشرق والغرب، وللتأكيد على مركزية ارتباط أوروبا بالغرب، ولتقديم روسيا بوصفها غير أوروبية بل هي «عالم آخر كلية».

ثمة تراث طويل لرؤية أوروبا كيانا ثقافيا واحدا، وذلك من باب إنكار «الأوروبية» على شعوب بعينها»، سواء أهي شعوب اليهود أم السلافيين في الماضي، أم المسلمين اليوم. كثير من اليمينيين اليوم يوظفون فكرة أوروبا الواحدة المتجانسة لإدانة الهجرة واعتبارها سببا للقضاء على بياض القارة وسلبا للـ«الوطن» من الأوروبيين.

غير أن هذه الرؤية لأوروبا توشك أن تكون عالما آخر تماما عن عالم كونديرا. فقد كتب في عبارة لافتة أن «أوروبا المثلى عندي هي الحد الأقصى للتنوع في الحد الأدنى من المكان».

إن ما يكافح من أجله كونديرا في هذا كله هو ما لم يزل يواجهنا إلى اليوم: وهو محاولة فهم العلاقة بين المحلي والعالمي، بين الخاص والمطلق، بين اللوذ إلى الانكفاء على الهويات بتجذره غالبا في التعصب والإقصاء وبين تبني الكوزموبوليتاية التي كثيرا ما تحتفي بتآكل المجتمع والديمقراطية.

وفي غوامض كتاباته وتناقضاتها، وفي الأسئلة التي يثيرها مثلما في الإجابات التي يقدمها، يحذرنا كونديرا من الثبات على أحد طرفي هذه العلاقة لدرجة أن نهمل الآخر، وذلك في المقام الأكبر هو ما يبقي لكتابته أهميتها.