عن تاريخ عُمان الذي لا يندثر..

18 مارس 2023
18 مارس 2023

قبل أكثر من سبع سنوات من الآن وبالتحديد في ديسمبر من عام 2015 سألت حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، وكان حينها وزير التراث والثقافة، وقد خرج لتوه من حفل افتتاح المتحف الوطني: إن البعض يتحدث عن سرقة التاريخ العماني ونسبته إلى آخرين وبوصفكم وزيرا للتراث والثقافة ماذا تقولون في هذا الشأن: فرد، حفظه الله، بهدوئه المعهود: «التاريخ لا يُسرق. ثم أضاف مؤكدا: حتى لو قام شخص بالحديث عن تفاصيل تاريخية ونسبها لنفسه، فالتاريخ العماني موثق ومكتوب وهو إرث غير قابل للسرقة».

كان مبعث السؤال في تلك المرحلة خوف العمانيين الكبير على تاريخهم وتراثهم من الضياع والسرقة أو الانتحال ونسبته إلى غير فاعليه، خاصة وأن التاريخ العماني والتراث العماني «المادي وغير المادي» قام على بقعة جغرافية شاسعة وأكبر بكثير من البقعة الجغرافية التي تشكل سلطنة عمان اليوم، حيث كان ممتدا على مساحة كبيرة جدا من جزيرة العرب وعلى مساحة أكبر بكثير في شرق ووسط أفريقيا حيث ترفرف اليوم على تلك المساحات الجغرافية أعلام عشرات الدول فيما كان في الماضي يرفرف عليها علم واحد فقط هو علم «الإمبراطورية العمانية». وكان ذلك الخوف الذي يشعر به العمانيون حقيقيا ومبررا، وقد شاهد العالم أجمع ما حصل في غير بلاد عربية من نهب لتاريخها وتراثها في ظل حروب كان أحد أهم أسبابها «حضاري» بشهادة الصحفي البريطاني روبرت فيسك الذي كتب كتابا ضخما حول ما حدث في العالم العربي من ثلاثة مجلدات عنونه بـ«الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة»، إضافة إلى أسباب أخرى إقليمية تتعلق بالتحولات السياسية التي حدثت في الإقليم في العقود الأخيرة.

كان رد جلالته في ذلك الوقت واضحا جدا، ويستند إلى حدث مهم خرج منه جلالته لتوه وهو افتتاح المتحف الوطني الذي يعتبر في ذلك الوقت أحد أكبر المتاحف في سلطنة عمان وأكثرها حفظا وتوثيقا للتاريخ العماني، ويمكن أن يكون، أي افتتاح المتحف، أحد الردود التي تزرع في نفوس العمانيين الطمأنينة على تاريخهم وتراثهم. وقبل 5 أشهر من ذلك اليوم كان السلطان الراحل قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه، قد وضع حجر الأساس لمتحف «عُمان عبر الزمان» في توجه واضح نحو بذل المزيد من الجهد لحفظ التاريخ والتراث العماني ووضعه في إطار سلسلة متاحف تقوم بحفظه كما تقوم ببناء حراك ثقافي وبحثي حوله. ومنذ 2015 حينما قال جلالته، حفظه الله (إن التاريخ لا يُسرق)، وحتى الأسبوع الماضي، جرت الكثير من المياه تحت الجسر، ووثقت سلطنة عمان الكثير من تراثها الذي يرقى أن يتحول من تراث محلي إلى تراث إنساني في منظمة اليونيسكو، وأصبح تراثا إنسانيا موثقا من أكبر منظمة معنية بتوثيق وحفظ التراث الإنساني، سواء كان تراثا ماديا أو تراثا غير مادي، كما حققت سلطنة عمان الكثير من الكتب العمانية القديمة، بجهود رسمية أو عبر عشرات الباحثين الذي درسوا مناهج التحقيق الحديث وطبقوها على ذخائر الأدب والتاريخ العماني.. وأنجزت وزارة التراث والثقافة «سابقا» مشروع رقمنة جميع المخطوطات التي كانت بحوزتها وحولتها إلى مخطوطات رقمية سهلة الوصول والبحث والدراسة، كما قامت بترميم مئات المخطوطات والوثائق العمانية القديمة التي تعود إلى مئات السنين. وكان واضحا أن ذلك الجهد وذلك الحراك لم يكن دون رابط مركزي، وإن بدا للبعض كذلك، بل كان في إطار توجه وإرادة عليا في البلد.

وفي الأسبوع الماضي حينما تفضل حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، وافتتح «متحف عمان عبر الزمان»، قد أكد صراحة أن تاريخ عُمان موثق ومحفوظ. وفي الحقيقة هو كذلك ومن أراد أن يتأكد فليزر المتحف فهناك الكثير من الأدلة التي يمكن أن تعيد رسم خارطة الزائر الذهنية حول حفظ التاريخ العماني. وقد زرت المتحف، ورغم الأسئلة التي كانت تحاصرني طوال الزيارة التي امتدت لأكثر من ثلاث ساعات، وكان مرد تلك الأسئلة عظم ما شاهدت وعرفت، إلا أنني كنت مغمورا بالفخر وأنا أرى تاريخ وتراث وطني قد حفظ في متحف فخم بحجم وجمال «متحف عمان عبر الزمان»، وبأسلوب عرض متحفي عصري جدا يستطيع الوصول إلى الأجيال الناشئة وأجيال المستقبل وهذه الفئات هي الأكثر حاجة لمعرفة تاريخ عمان العريق، والمنجز الحضاري الذي استطاعت أجيال الآباء والأجداد أن تصنعه.

ومن يدخل هذا المتحف، وفي الحقيقة كل المتاحف الموجودة في عُمان، يستطيع أن يعرف معنى أن تاريخ عُمان لا يمكن أن يُسرق أو أن يطمس، حيث سيجده منقوشا على حجارة عُمان الصلدة منذ آلاف السنين، وفي عشرات الآلاف من المخطوطات العمانية التي تملأ خزائن دار المخطوطات بوزارة الثقافة والرياضة والشباب وهيئة المخطوطات الوطنية ومئات المكتبات العمانية الخاصة ومئات المكتبات حول العالم التي تضم أرففها مخطوطات عمانية لأعلام عمانيين كبار.

إن افتتاح «متحف عمان عبر الزمان» حدث تاريخ سيبقى علامة فارقة في مسيرة حفظ وتوثيق التاريخ والتراثي العماني. ويضاف إلى مشروعات كبرى حدثت في سلطنة عمان تخدم السياق نفسه مثل الموسوعة العمانية التي تعتبر، أيضا، حدثا مهما وكبيرا في عُمان، وما تبعها من موسوعات أخرى متخصصة تصدر تباعا.

أما وقد تحقق كل هذا لا بد أن نطرح السؤال الآتي: هل هذا كل شيء؟

لا يبدو لي أن المشروع العماني لحفظ التراث والتاريخ يمكن أن يتوقف عند حد من الحدود، المشروع ما زال في بداياته وتاريخ عمان وتراثها يستوعب عشرات المتاحف الكبرى مثل تاريخ عُمان البحري، كما يمكن مع الوقت أن تظهر متاحف أكثر تخصصية مثل وجود متحف خاص بالأفلاج، وآخر بالموسيقى العمانية، وثالث بالمخطوطات.. إلخ.

كل هذه المشروعات تجعل العمانيين أكثر اطمئنانا على تاريخهم وعلى تراثهم ليتحول تركيز الجهد من مجرد الحفظ والتوثيق إلى مرحلة البحث والدراسة العلمية المعمقة في كل تفاصيل هذا التاريخ العظيم.

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة عمان