عن التنافس بين روسيا والصين وأمريكا على قيادة العالم

03 يوليو 2021
03 يوليو 2021

عندما قال الرئيس الأمريكي جو بايدن لحلفائه الأوروبيين في اجتماع السبع الكبار مؤخرا، عليكم أن تختاروا بين الولايات المتحدة وكلا من الصين وروسيا، فإنه كان صريحا أكثر مما ينبغي في الاعتراف بأن حظوظ العالم الغربي بقيمه المعروفة تتراجع إلى حد الخطر في مقابل صعود حظوظ منافسين من أرضية مختلفة إلى حد كبير هما الصين وروسيا، وإذا لم يستعد التحالف الغربي الرأسمالي قوته فإنهما سيسيطران على قيادة العالم في المستقبل القريب.

وقد تبدو مخاوف بايدن مبالغا فيها، أو أنها جاءت في إطار تحفيز قادة أوروبا على الاصطفاف مجددا إلى جانب الولايات المتحدة بعد أن كانت العلاقات قد تدهورت بشدة خلال إدارة دونالد ترامب. وهذا صحيح وأمر متوقع من الجانبين الأوروبي والأمريكي وفقا لما شهدته العلاقات السنوات الأربع الماضية من شد وجذب وعدم ارتياح لأسلوب ترامب وسياساته الخارجية. ولكن ما كان في ذهن بايدن أهم من ذلك بكثير، حيث استشعر تراجع قيم العالم الرأسمالي الديمقراطي في مواجهة صعود يكاد يكون كاسحا لقيم عالم آخر من الكبار لا ينتمي لهذه القيم وينهج طريقا مختلفا أو بالأدق مناقضا حقق من خلاله نجاحا مبهرا على الصعيد الاقتصادي من جانب الصين وعلى الصعيد السياسي من جانب روسيا، والأخطر أن كليهما حقق تفوقا مؤثرا على صعيد التسلح ومن ثم فرض الأمن المناسب لأهدافه الحيوية في مناطق كانت ملعبا للعالم الغربي وتحديدا الولايات المتحدة سواء في المحيطين الهادي أوالهندي أو حتى في المياه القريبة من الساحل الأمريكي نفسه!.

وتعمل الصين على أن تكون قريبة للغاية من هذا الساحل لتباشر الضغوط على صانع القرار الأمريكي من الناحية الأمنية الإستراتيجية، حيث تريد السيطرة كخطوة أولى على المحيط الأطلنطي وبحر الكاريبي لعمل قاعدة بحرية على الساحل الغربي الإفريقي ومن ثم يمكن للسفن الحربية الصينية في المستقبل القيام بدوريات منتظمة قبالة الساحل الشرقي الأمريكي.

قلق الرئيس بايدن كان حقيقيا بالفعل وانعكس ذلك في الإسراع من جانبه وفي أول تحركاته البارزة خارجيا من حيث عقد اجتماع الدول السبع الكبار واجتماع حلف الناتو بهدف اتخاذ موقف غربي موحد وقوي لتحجيم الصعود الملفت في عالم توازن القوى بالنسبة لكل من الصين وروسيا. وفي ذهن الرجل ما كان قد وعد به انتخابيا بأنه سيعود بالولايات المتحدة إلى قيادة العالم.

ورأى أن الخاصرة الضعيفة التي تم اختراقها والتأثير فيها هي أوروبا خاصة بعد أن اهتز تركيب الاتحاد الأوروبي بخروج بريطانيا منه بكل ما تمثله هذه الدولة من ثقل في كل المجالات. وعلى مدى سنوات قليلة نجحت الصين في أن تضع أوروبا في حوزتها من الناحية الاقتصادية وليس فقط إحراز التفوق في العلاقات التجارية والاقتصادية والتكنولوجية مع الولايات المتحدة. وكان حاضرا في ذهن الرجل أيضا أنه قد يستطيع أن يحدث بعض التصحيح في خلل التوازن الاقتصادي بين واشنطن وبكين وفقا لبعض السياسات الداخلية التي شرع على الفور بعد استلامه الرئاسة في تنفيذها وأحرزت بالفعل بعض التقدم المبشر.

ولكن هذا لا يكفي لكي تستعيد الولايات المتحدة قيادة العالم كما يريد، بل لابد من إعادة بناء العلاقة مع أوروبا وتحفيزها على مواجهة الخطر الأيديولوجي الذي يتعرض له العالم الغربي ككل متمثلا في أن دولة لا تزال تحافظ على التقاليد الشيوعية هي الصين قد نجحت في تحقيق تفوق اقتصادي وفقا لمعايير أخرى لا تعمل بنفس قواعد العالم الليبراليين وكذلك دولة مثل روسيا لم تعد متمسكة بتقاليد المرحلة الشيوعية ولكنها لا تعمل بنفس المعايير السياسية الديمقراطية الغربية وكثيرا ما يتهم الإعلام الغربي نظامها بأنه يقهر الحريات العامة. هي بدورها قد حققت انتصارات سياسية متتالية في ملفات إقليمية وعالمية مهمة أطاحت بالدور الأمريكي.

ووفقا لتقارير غربية موثوقة تابعت جولة بايدن الأوروبية فإنه هدف منها أساسا لإقناع قادة أوروبا بمعارضة الصين على أساس أنها الطرف الدولي الذي يعوق عودة الولايات المتحدة إلى قيادة العالم وفقا لمعطيات تحقيق القوة الشاملة، وأنه عندما التقى مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاول إقناعه بالوقوف ضد بكين مقابل سعيه إلى تحقيق انفراجة وتوازن في العلاقات بين واشنطن وموسكو.

ولكن برغم كل ما صدر ظاهريا من التعبير عن الروح الإيجابية التي سادت لقاء بايدن وبوتين حيث وصف اللقاء بأنه كان بناء إلى حد كبير، إلا أنه لم يترشح عن اللقاء أي إشارة إلى موضوع العلاقة بين واشنطن وبكين وما إذا كان بوتين سيعمل حقا على ترميمها. وبالعكس من ذلك كان اللقاء تعبيرا عن قلق إدارة بايدن من نمو العلاقات بين موسكو وبكين إلى ما يشبه التحالف، ولذلك سعى بايدن إلى خلخلة هذا التحالف إلا أنه لم يستطع لأن هناك مؤشرات قوية على أرض الواقع تؤكد قوة هذا التحالف.

وحتى لو أن طلبا كهذا تم طرحه فعلا من جانب بايدن، فإن هناك لقاء منتظرا سيجمعه مع الرئيس الصيني شى جين بينج وخلاله سيقف على مدى قوة العلاقة بين موسكو وبكين والأحرى أنه لن يجد مبتغاه في خلخلة هذه العلاقة لأن الواقع يقول عكس ذلك. فالمعروف للخبراء وليس سرا أن هناك أوجه تعاون بين موسكو وبكين ترقى إلى حد وصف التحالف ولن تجدي معها المحاولات الأمريكية صنعا بل على الولايات المتحدة أن تواجه مصيرها الجديد الذي أفرزته عوامل عديدة تتعلق بتغير موازين القوى بشكل لا يعمل لصالحها. وقد تابع العالم برغم القمة الروسية الأمريكية انسحاب كل من البلدين من اتفاقية السماوات المفتوحة (بدأ تفعيلها العام 2002) والتي كانت تسمح بمرور طائرات مراقبة غير مسلحة فوق أراضي الدول الأعضاء (35 دولة) لتفعيل الشفافية في الأوضاع العسكرية على الأرض (وفقا لبعض الاشتراطات بالطبع) وذلك بعد أن عبر كل منهما عن عدم ارتياحه لالتزام كل منهما بواجبات هذه الاتفاقية. والخروج منها دليل على الافتقاد للثقة بين الجانبين.

وللمزيد من التوضيح فإنه ليس سرا أن التعاون الدفاعي بين موسكو وبكين على درجة عالية من القوة من حيث الدعم في مجال التسلح الذي تقدمه بكين لموسكو بفضل ما تحصلت عليه الأولى من معرفة وخبرات تكنولوجية عالية الجودة خاصة فيما يتعلق بالمخرجات المتجددة للتكنولوجيا الرقمية الصينية، بذلك تسد ثغرة في قدرات روسيا العسكرية. وقد اعتمدت روسيا على الصين في الحصول على المكونات الإلكترونية والبحرية للتغلب على العقوبات الأمريكية ضدها والتي تمنعها بالطبع من الحصول على هذه المكونات عبر الاستيراد من الخارج بسبب وجود عقوبات تمنع الشركات من تزويدها بها.

وليس سرا أيضا أن روسيا من جانبها زودت الصين بما لديها من أنواع جديدة من الصواريخ مثل أس 300 وأس 400 وكذلك من المقاتلات الروسية الحديثة.

ولا شك أن هذا التعاون العسكري المشترك بين البلدين يفرض ضغوطا على الولايات المتحدة ما كانت تنتظرها من حيث الالتزام بتخصيص ميزانيات ضخمة لتحقيق التوازن في سباق التسلح مع البلدين. ولا شك أن التعاون الروسي الصيني في مجالات التكنولوجيا الرقمية والحيوية وبالأخص ما يتصل بما يسمى الأمن السيبراني أي الحصول على المعلومات الأساسية لمصادر القوة عند الطرف المنافس وخاصة في مجال القوة العسكرية، من شأنه أن يعيد مكانة الولايات المتحدة التي كانت تكاد تحتكر لنفسها هذا المجال.

وغني عن القول أن كلا من روسيا والصين تعملان على الحد من مركزية الولايات المتحدة في النظام الاقتصادي العالمي مما يضعف في الحقيقة من فاعلية العقوبات التي تلجأ إليها دائما الولايات المتحدة لمعاقبة معارضيها من دول العالم. ولنا أن نأخذ العبرة مما فعلته الإدارات الأمريكية مع إيران مثلا (وكذاك فنزويلا) حيث فرضت عديد العقوبات عليها بسبب خلافهما حول البرنامج النووي، ولكن قامت كل من الصين وروسيا بتقديم أوجه العون لها لتجاوز مخاطر العقوبات التي واقعيا لم تحدث تغييرا في الموقف الإيراني.

ما يجري في الحقيقة يذكرنا بأجواء الحرب الباردة مع تغير الأطراف والمضمون ولكن مع الاتفاق في الشكل حيث هناك قوتان متقاربتان سياسيا وبينهما تعاون وثيق اقتصاديا وعسكريا ويتفقان على وضع نهاية لفكرة أن تكون الولايات المتحدة هي سيدة العالم أو هي التي تحكمه، ويواجهان جبهة مضادة تتزعمها الولايات المتحدة بتحضير لتحالف مع القارة الأوروبية.

هكذا نحن في أجواء توتر يشابه أجواء الحرب الباردة التي انتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي السابق أواخر ثمانينات القرن الماضي. والفرق بين أجواء الماضي والحاضر هو أن الجهتين لا تريدان الدخول في معارك عسكرية أو قتال هنا أو هناك، وإنما تعملان على تنغيص حالة كل منهما وإضعافه وإسقاطه بالنقاط كما في وضع جولات الملاكمة! والهدف الأكبر على المستوى البعيد هو حكم العالم. وإذا كانت كل الإدارات الأمريكية السابقة قد عبرت عن ذلك صراحة ونجحت في الماضي، فإن اليوم هناك قوى أخرى هي تحديدا الصين وروسيا يعيشان نفس الحلم إن جاز التعبير. والمشكلة في كل هذه المحاولات بما فيها الرغبة الأمريكية أنها تعمل لصالح أطرافها وشعوبهم وليس لصالح العالم ككل وشعوبه.

**ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة