علي الحبسي: عندما يتفق العمانيون على الحب
سالم الرحبي
لطالما أجمعتُ أنا وثلة من أصدقائي على اعتقاد مفاده أن الشارع العماني يبدو من الداخل منيعًا ضد فكرة «النجومية» على نحو مريب وغريب، أي أنه لا يُبدي استعدادًا طبيعيًا لصناعة وتقديم «المشاهير» ثم تصديرهم، بصرف النظر عن تفاوت فهمنا لمحددات وحيثيات «الشهرة»، كما أن البنية السيكولوجية لمجتمعنا لا توفر مناخًا رحبًا لحركة «الشخصيات العامة» وهذا توصيف وتصنيف آخر لا يخلو من تعسُّف لغة الكاتب. وسواء كانت هذه الشخصية فنية أم ثقافية أم رياضية... إلخ القوالب التقليدية للشهرة، إلا أنها ستنتهي دائمًا إلى المستنقع الاجتماعي ذاته الذي قلّ من ينجو منه، مهما زُفت على أكفّ الراحة في عمر قصير من تجربتها المهنية والإبداعية.
وفي حالات معينة يجري الأمر ذاته على «الشخصية الرسمية» في صورة الوزير أو المسؤول الرفيع بالدولة، إذ يُبدي السلوك المدني العام تحفظه من منح المسؤول امتيازات «الشهرة»، خاصة حين يكون ذا شخصية منقودة، وإلى هنا فالتحفُّظ مفهوم جدًا.
أما الغريب فأن يكون تفسير ذلك كامن في حقيقة أن هذه الشخصية قد خرجت إلى الضوء من الصُلب الاجتماعي ذاته لفئة معينة من المجتمع، ما يجعل من تميزها مثيرًا للغريزة التنافسية داخل الأفراد، وإعلانًا عن انطلاق سباق ضمني، ومما يبدو أننا لا نحبذ فكرة السباقات هنا، أما ردة الفعل هذه فقد نستسلم عادة لتسميتها بطريقتنا المحلية «حسدًا». وما إن تشق شخصية عمانية طريقها من الغرف المحلية الضيقة إلى الهواء الطلق، أو من الصمت إلى الكلام، فستجد نفسها مطعونة بعيون التشكيك إلى أن تُثبت العكس، مهما كان تميزها ثمرة تعب شخصيّ وكفاح عصاميّ، ومهما كانت الرُتبة الاعتبارية التي يقترحها العامة لمجال شهرتها، في بيئة تتمتع بحساسية مفرطة من الضوء.
لكن فتى ما، قادمًا من ملاعب المضيبي الترابية إلى أكبر الصروح الرياضية حول العالم، استطاع أن يكسر هذا النمط الدائري القصير لعملية صناعة النجوم وتصديرهم خارج البلاد، بمزيج من تفرد الموهبة وتعب المثابرة و«التوفيق من الله عز وجل» كما يحب أن يؤكد دائمًا، أنه بالتأكيد نجم كرة القدم العمانية: علي الحبسي، فبعد عقود من النضال الوطنيّ في سبيل أن يتحدث العالم إلينا، تمكنت النضالات الفردية من شق قنوات جديدة إلى مسارح وملاعب العمورة، نحن من نتحدث عبرها إلى العالم هذه المرة، وأعتقد أن الحبسي كان أبرزها على الإطلاق.
أما عن السؤال التالي: فهل خرج الحبسي من عُمان إلى ملاعب الدوري الإنجليزي نجمًا، أم أنه عاد نجمًا إلى عُمان؟ فهذا سؤال أكتفي بإثارته دون الانسياق وراء البحث عن إجابة شافية له، إلا أنه يأتي محملًا بسؤال آخر: أكان لا بدَّ دائمًا من اعتراف خارجيّ حتى تحتفل البلاد بأبنائها؟ ومهما اختلفنا في الإجابة عن السؤالين السابقين إلا أننا سنتفق حتمًا على كون علي الحبسي أنموذجًا فريدًا في حالتنا العمانية على الشخصية المُتفق عليها، وهو يستحق هذا الوقوف المتأمل لمسيرته من رجل إطفاءٍ إلى أفضل حارس عربي عام 2004، ولاحقًا أول لاعب عربي يفوز بكأس الاتحاد الإنجليزي في موسم 2012-2013.
لا نعرف الكثير عن الأعباء والمشاق التي واجهها الحبسي في سبيل الاحتراف في الدوري الإنجليزي، ومن الواضح أن ما صرّح به في هذا الشأن أقل بكثير مما صمت عنه، فمقابلاته الإعلامية وظهوره التلفزيوني شحيح جدًا مقارنة بما يتمتع به من نجومية وأهمية إعلامية، وهو في هذا السياق لا يخرج كثيرًا عن نمط الشخصية العامة بعمان في تعاطيها مع الإعلام.
يذهب البعض إلى تفسير ندرة ظهوره في المقابلات الشخصية على وسائل الإعلام من باب التقصير الإعلامي المعتاد، فيما يفسره البعض الآخر تواضعًا وزهدًا من الحبسي في الظهور، ولا شك أن التواضع (بصورته الخارجية على الأقل) صفة تلقى مديحًا كبيرًا في عمان، ومن شأنها أن تؤدي إلى نتيجة عكسية فتجر المرء من ظلال تواضعه لتضاعف من رصيده الشعبي وحظوته الاجتماعية.
على أي حال، بالإعلام أو بدونه، وجد الحبسي طريقه ومقصده نحو قلوب جمهوره من خلال منبره وميدانه الأول: الملعب، الذي يمثل الوسيط الإعلامي الأبلغ في حالته، فهو القصيدة والمنبر معًا بالنسبة للاعب كرة القدم، وهذه حقيقة تدفع بشاعر مثلي إلى الغبطة أو «الحسد» ربما!
في ديسمبر الماضي شاهدناه في قطر وهو يتقدم على البساط الأخضر في ملعب «البيت» حاملًا إلى كل العرب كأس العرب في نسخته الأولى 2021.
كان لذلك التكريم القطريَّ العربيَّ الدوليّ دلالته الرمزية البالغة لهذا الشاب الأسمر الذي نالت إبداعاته الكروية ما تستحقه من مجد في الداخل والخارج.
وفي ديسمبر الماضي أيضا سجلت امرأة بريطانية في تغريدة لها على تويتر عرفانها لعلي الحبسي بعد تسع سنوات من إهدائه قفازه إلى طفلها، قائلةً بأن الحبسي «لا يزال بطله» ويا له من مجد أن ينال المرء اعترافًا كهذا من قلب طفل بعيد!
هتف له العمانيون في الملاعب وخارجها وكأنه كان مشروعهم، مشروع العائلة المشتاقة للاحتفال بأبنائها والتباهي بهم على مرأى من العالم.
أما هو فاستطاع أن يكون على قدر الحب والمسؤولية خلال مسيرته الرياضية مع منتخب بلاده والأندية التي لعب لصالحها، مانحًا الناس أنفس ما لديه، موهبته التي استحقت اعتراف العالم وإعجابه. فما كان من العمانيين سوى أن يبادلوه بأجمل ما فيهم: الحب... حتى وإن كانت القسوة أحيانًا بعض المضاعفات المتأخرة لهذا الحب.
__________
سالم الرحبي
كاتب وشاعر عماني
