صناعة الإبداع في السينما

26 يونيو 2021
26 يونيو 2021

عائشة الدرمكية -

في ديسمبر 2020 قدمت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم ورقة مفاهيمية بعنوان (الثقافة في أزمة.دليل رسم السياسات الكفيلة بتعزيز مرونة قطاع الإبداع)؛ وذلك ضمن التدابير التي اتخذتها مع الحكومات للحد من آثار أزمة كوفيد19 على قطاع الثقافة والعاملين فيه؛ وذكرت اليونسكو في ورقتها هذه أن «قطاع السينما وصناعة الأفلام سيسجل خسارة عشرة ملايين وظيفة في عام 2020... وأن هذا القطاع الذي يحوي تحت مظلته 30 مليون وظيفة (يصارع) من أجل الاستمرارية»، فقد كانت السينما والمسرح من أبرز المجالات التي تأثرت بهذه الجائحة - بحسب اليونسكو -.

إذا كان هذا القطاع قد خسر خلال عام واحد من أزمة كوفيد19 هذا العدد من الموظفين العاملين فيه، فكم تُقدر خسارة الدول من إيراداته؟! وإذا كانت هذه القطاعات الحيوية في الصناعات الإبداعية ذات تأثير بالغ الأهمية فلأنها تمثل قدرة حيوية ليس على مستوى الاقتصاد وحسب بل أيضا على المستويين الاجتماعي والسياسي؛ فالسينما باعتبارها هُوية حضارية قادرة على الولوج إلى فكر المجتمعات باعتبارها (فنا صناعيا) - باصطلاح جيل دولوز -؛ فهي فن يُصنع من أجل التأثير والتشويق.

ولأنه كذلك فهو صناعة إبداعية قادرة على تصوير المفاهيم الذهنية وتحويلها إلى صور، محدثة بذلك طاقة هائلة في التأثير على المتلقين، في إثبات قناعات أو دحضها بفضل عنصر الإمتاع والتشويق الذي يتميز به. ولهذا فإن السينما باعتبارها (فنا صناعيا) توصف بأنها مجال حيوي للاستثمار على مستوى العالم؛ حيث أصبحت الدول تتنافس من أجل السيطرة على إمكاناته، وهذه السيطرة ليست ثقافية وحسب بل هي سياسية اقتصادية. لنجد في مقابل ذلك الدول التي لم تتنبه لفعل هذه القدرة الإبداعية وأثرها، التي باتت اليوم تدفع الملايين لشركات الإنتاج السينمائي من أجل تسويق بعض منتجاتها في بعض مشاهد الأفلام، بل تدفع من أجل تسويق دولها سياحيا، أو استقطاب تصوير بعض المشاهد بهدف الترويج.

إن صناعة السينما باعتبارها قوة ثقافية واقتصادية تُعد من أساسيات الصناعات الإبداعية، فهي صناعة (مربحة)، قادرة على توفير الآلاف الوظائف الإبداعية أو المسانِدة، غير أن الأمر هنا لا يتعلق فقط بالسينما باعتبارها فنا، بل أيضا بالتخطيط لاستثمار هذه الصناعة. والحال أن سلطنة عمان تنبهت منذ عقود من الزمان إلى أهمية التنمية الثقافية في مجال السينما؛ واستطاع المبدعون تأسيس جمعية مدنية متخصصة في هذا القطاع، والتي تُعد أحد المراكز الإبداعية المهمة في السلطنة؛ إذ استطاعت إنتاج العديد من الأفلام (القصيرة) التي تم عرضها في مهرجانات إقليمية وعالمية، وفاز الكثير منها بجوائز ومراكز متقدمة.

وبالرغم من تلك الجهود التي يبذلها القائمون على هذا القطاع إلا أنه بقي دوما بعيدا عن تصنيفه بـ (صناعة إبداعية) بالمعنى الاقتصادي؛ ذلك لأن تلك الأفلام القصيرة، بل حتى (مهرجان السينما) شبه السنوي، كان يحتاج دوما إلى دعم حكومي أو خاص؛ أي أنه يستهلك دون أن يُدر أرباحا يمكن الاستفادة منها في الإنتاج السينمائي. والأمر نفسه في محاولات تأسيسية قدمها الفنان سالم بهوان - رحمه الله - في إنتاج الأفلام الطويلة التي تم عرضها في دور السينما بمبالغ رمزية، على الرغم من أن أهمية تلك المحاولات باعتبارها تجارب تأسيسية مهمة ألهمت العديد من المبدعين بعد ذلك.

إن صناعة السينما في عُمان تحتاج إلى التخطيط التنفيذي القادر على فهم معطيات وآفاق هذا القطاع الإبداعي المهم، ولهذا فإن هذا التخطيط لا يمكن أن يقوم به المبدع نفسه، ولا حتى المؤسسة الثقافية وحدها، بل يجب أن يكون بالتعاون والشراكة مع المتخصصين في الاستثمار؛ القادرين على تحويل هذا الفن إلى صناعة اقتصادية، ففي قطاعات الصناعة الإبداعية يجب أن يقوم المبدعون بأدوار والمستثمرون بأدوار لا تقل أهمية.

والحال أن التخطيط للاستثمار في صناعة السينما يحتاج إلى تقييم لواقع السينما في عُمان، والتحديات التي تواجه هذا القطاع، وإمكانات تحويله إلى صناعة، فامتلاك الأدوات ووجود المستثمر لا يكفيان لصناعة سينمائية منافسة؛ فالأمر يحتاج إلى إمكانات على مستوى النص والإخراج والأداء، على أن يستطيع النص تمثيل الواقع الثقافي في عُمان مستخدما الإرث الحضاري الواسع، وإخراجه في قالب متحرر من المحلية، متطلعا نحو الإقليمية أو العالمية. ولذلك علينا أن نبدأ بتحديد تلك الاحتياجات الإبداعية والعمل على تمكينها من خلال المراكز الإبداعية المختلفة من ناحية، وزيادة البعثات الدراسية المرتبطة بالمجالات السينمائية التخصصية التي يمكنها أن تسهم في صقل المواهب وتأسيس الأجيال الإبداعية.

ورد في الإحصائية الثقافية (الثقافة مشاركة وانتشار) التي أصدرها المركز الوطني للإحصاء لعام 2020، أن «7.654.410 مليون ريال عماني، إجمالي دخل الأفلام والعروض السينمائية في عام 2019»، وهو الأمر الذي يعكس مدى إقبال المجتمع على دور السينما ومتابعة الأفلام السينمائية من ناحية، والقدرة الاقتصادية لهذه الصناعة من ناحية أخرى. إلا أن هذه الصناعة ليست صناعة عمانية، فنحن مستهلكون ليس منتجين؛ فإذا علمنا أن عدد دور السينما في السلطنة (11) دارا، وقد عرضت خلال 2019 (656) فيلما - حسب الإحصائية - فعلينا أن نتساءل كم عدد الدور التي يتملكها المستثمر العُماني؟ وكم عدد الأفلام العمانية أو التي أُنتجت في عُمان من إجمالي تلك الأفلام؟

إن واقع الصناعات الإبداعية عموما وصناعة السينما بشكل خاص في عُمان تحتاج إلى إعادة نظر من الناحية التنفيذية، فلكي يكون لهذا القطاع رؤية واضحة عليه أن يكون أحد القطاعات الاقتصادية التي تسعى الدولة إلى تحقيقها. ولأن الاستثمار الثقافي والصناعات الإبداعية أحد مرتكزات رؤية عمان 2040، فإن خطة العمل على تأسيسه لا يمكن أن تنهض إلا باعتبار السينما صناعة ثقافية اقتصادية، قادرة على تحقيق مجموعة من الأهداف التنموية (الثقافية والاجتماعية والسياحية والاقتصادية).

ولهذا فإن وجود برنامج إنمائي للصناعات الإبداعية وعلى رأسها السينما أصبح من الضرورات حتى يستطيع هذا القطاع المساهمة في التنمية الاقتصادية القائمة على الاستثمار والتنويع، فالأمر هنا يعتمد على قدرة القائمين على هذا البرنامج على المواءمة بين احتياجات قطاع السينما باعتباره قوة ثقافية واجتماعية من جهة، وقدرته على فتح آفاق اقتصادية وتشغيلية باعتباره صناعة من جهة أخرى؛ فإذا ما استطاع هذا البرنامج تأسيس خطة تشاركية بين القطاعات الحيوية المعنية بالسينما في السلطنة وقطاعات الاستثمار فإنه سيُنتج قوة اقتصادية إبداعية خلال العقدين القادمين؛ فالتخطيط للاستثمار في الصناعة السينمائية يحتاج إلى خطوات تنفيذية واقعية تأخذ التنمية البشرية الإبداعية في هذا القطاع أساسا للوصول به إلى الغايات المنشودة.

إن مستقبل السينما في عُمان يرتبط بالعديد من المتغيرات الثقافية سواء أكانت تلك التأثيرات الاقتصادية التي عصفت بقطاع الثقافة عموما والسينما بشكل خاص بسبب جائحة كوفيد19 منذ العام الماضي، أو تلك المرتبطة بتطلعات المجتمع واستثمار الثقافة في الصناعات الإبداعية، إضافة إلى التحولات التقنية والمعرفية التي تصبو إليها السلطنة من خلال رؤية عمان 2040، ولهذا فإن إيجاد برنامج إنمائي خاص يسهم في إنعاش هذا القطاع، ويُكسبه صفة (الصناعة)، سيكون رافدا مهما للتنمية الثقافية والاقتصادية.