رصد وسائل التواصل والإعلام: السماع والاستماع وما فوقهما
يميل بعض المختصين إلى تأييد أهمية التفريق بين مفهومي الاتصال والتواصل، خصوصا إذا ما تم إسقاط ذلك على التوجهات الحديثة في كلا المفهومين سواء في جانب التطور التقني أو السلوك الفردي والمجتمعي. وربما يبررُ ذلكَ الثراءُ الذي تتميز به اللغة العربية في المعاني المرتبطة بمفردتي الاتصال والتواصل مقارنة باللغة الإنجليزية والتي يتم التعبير فيها عن كلا المفهومين بمفردة Communication مهنيا. واختصارا لما ينبغي توضيحه كتمهيد للموضوع الرئيسي، فإن التفسير الذي يمكن أن يصاحب كلمة الاتصال هو أنها ممارسة نقل الرسالة من مرسل إلى مستقبل باتجاه واحد، بينما يكون تفسير كلمة التواصل أن تكون حركة الرسالة ثنائية الاتجاه، ويكون فيها أحد الطرفين - أو الأطراف - مرسلا أحيانا، ومستقبلا أحيانا أخرى. وقد تجلى الإيمان بمفهوم التواصل في المؤسسات الرسمية بشكل واضح خلال السنوات القليلة الماضية وعلى أصعدة مختلفة؛ ليس آخر تلك التجليات توحيد مسميات الدوائر القائمة بذلك على مستوى الجهات الحكومية ليكون (دوائر التواصل والإعلام).
إذاً وبالبناء على مفهوم التواصل الذي تم التطرق إليه، فإن من المهم بالنسبة للمؤسسة أن تسعى لاستكشاف أفضل السبل والقنوات التي تمكنها من معرفة ما يحاول جمهورها إرساله إليها، أو التعبير عن الارتباطات الذهنية أو العاطفية تجاهها. وفي هذا السياق يمكن استذكار أحد تعريفات الهوية المؤسسية الذي أتى به جيف بيزوس مؤسس أمازون والذي يقول بأن الهوية المؤسسية هي ما يقال عنك في غرفة لست موجودا فيها.
ما يمكن استخلاصه فيما يتعلق بنماذج سلوك الجمهور في التعبير عن أفكاره أو مشاعره تجاه مؤسسة ما أنه إما أن يوجه الجمهور رسائله إلى المؤسسة مباشرة عبر مختلف قنوات التواصل سواء وجها لوجه أو بالهاتف أو بالمراسلة أو مؤخرا عبر الشبكات الاجتماعية أو غيرها من القنوات، وهي قنوات تضمن جميعها للمؤسسة أن تطلع عليها وتتخذ بشأنها الإجراء المناسب، أو أن يطرح الجمهور تلك التعابير في سياق نقاشات أو أطروحات دون توجيهها إلى المؤسسة، وهو ما يجعل المؤسسة في موضع قد لا يمكنها من معرفة طبيعة تلك التعابير دون وجود أدوات وممارسات لرصد وسائل التواصل والإعلام.
ومع انتشار الوعي بأدوات وممارسات الرصد مع تعدد أنواعها وتفاوت تكاليفها وتنوع نطاقات ما تغطيه من منصات وقنوات، يمكن اعتبار أن تلك الأدوات أصبحت أُذُنَ المؤسسة التي تفيدها في رصد ما يقال عنها سواء تم توجيهه إليها مباشرة أو كانت أحاديث عابرة وقعت ضمن النطاق التي تغطيه تلك الأدوات. غير أنه من المهم في سياق تشبيه تلك الأدوات بالأذن التذكير بالمستويات المختلفة التي يمكن الاستفادة عبرها من الأذن؛ حيث يُخشى أن تكتفي المؤسسات من وجود أدوات وممارسات الرصد بالسماع Hearing، وهو أن تقع التعابير والأطروحات ووجهات النظر ضمن نطاق الرصد سواء كان ذلك بقصد من المؤسسة أو دون قصد منها وهو ما يتجسد جليا في القرآن الكريم في أكثر من سياق مثل «إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان».
أما أقل المستويات المقبولة من توظيف الأذن - أي أدوات وممارسات الرصد في سياق الموضوع - فهو الاستماع Listening، حيث يكون الغرض منه هو تحقيق الاستفادة مما ترصده الأذن ويكون في معظم الأحيان لغرض التحليل أو الفهم أو الاستيعاب، كما وضحه القرآن الكريم في مواضع كثيرة مثل «وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى» أو«الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه». ومن هذه الممارسة يمكن استشفاف أن المؤسسة التي تقوم بالرصد تسعى لمعرفة طبيعة ما يقال عنها وتحلل طبيعته وأبعاده ومدى انتشاره من أجل تحقيق الفهم الكامل. لكن ما الذي يمكن أن تستفيده المؤسسة من مجرد معرفتها بذلك؟ لذا فإن من المهم بالنسبة للمؤسسة أن تكمّل نظامها الداخلي الذي يسعى إلى توظيف مخرجات الاستماع في تعزيز عملياتها وتحسين رسائلها الإعلامية والاقتراب أكثر من جمهورها أو الجهات ذات العلاقة، وهو ما يمكن وضعه في خانة الإصغاء Active or Empathetic Listening في سياق مثال الأذن، والذي يظهر فيه المتلقي التفاعل والاهتمام بما يقال أمامه، وهو ما يوضحه القرآن الكريم في الآية «ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون».
أما المستوى الأعلى لكيفية تكريس الموارد الكاملة للمؤسسة في ممارسات وأدوات الرصد، فهو الإنصات Critical Listening بحيث تكون المدخلات الواردة إلى المؤسسة عبر أدوات وممارسات الرصد رافدا أساسيا في اتخاذ القرار بالنسبة للمؤسسة وعملياتها ولكن ينبغي أن يتم ذلك بما لا يجعل المؤسسة عرضة للانقياد غير الواعي خلف ما يتم طرحه من وجهات نظر قد لا تتناسب مع طبيعة عملها أو لا تحقق الغاية التي تأسست من أجلها. ويبين القرآن الكريم مستوى الإنصات في آيات عديدة منها «فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين» والتي تبين التفرغ التام أثناء الإنصات.
وإجمالا للموضوع فإن ممارسة رصد وسائل التواصل والإعلام ينبغي أن تكون على المستوى المؤسسي لا الشخصي، حيث قد يميل المسؤول إلى محاولة رصد ما يتم طرحه من وجهات نظر أو آراء بشكل شخصي والذي قد ينتج عنه صورة غير واقعية لما يتم طرحه بالفعل سواء كانت تلك الصورة مبالغة في الإيجابية أو موغلة في السلبية؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات ارتجالية غير مبنية على الوعي الكامل بمختلف وجهات النظر والبيانات التي يتم تحليلها بمنهجيات علمية. لذا فإن ما يفضل أن يقوم به المسؤول عوضا عن ذلك هو ضمان وجود الموارد اللازمة للقيام بالرصد مع أهمية استخلاص تقارير دورية تقدم القدر الكافي من المعلومات والبيانات بما لا يزاحم الأولويات التي تشغل بال المسؤول وفي المقابل بما لا يغيبه عن الإلمام بما يتم تداوله حول المؤسسة التي يرأسها أو مجال عملها.
مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية
