«تغريبة القافر»: الهامش الذي اقتحم المركز

24 مايو 2023
24 مايو 2023

يعيد فوز رواية «تغريبة القافر» للروائي العماني زهران القاسمي بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الأخيرة التي أُعلنت مطلع هذا الأسبوع، إلى الواجهة مجددا، سؤال الهامش والمركز العربيين، وهو سؤال ما فتئ يُثار كلما حقق اسم أو عمل أدبي أو فني ينتمى إلى ما يُعرف بدول الأطراف أو الهامش نجاحا ما، وزاحم بل وأزاح أسماءً وأعمالا تنتمي إلى ما يُعرف بدول المركز، لكن السؤال، رغم ما يحتله في بعض الأحيان، من مساحة سجالية في الصحافة ومنصات التواصل الاجتماعي، يأتي دون قيمة ثقافية، ومصدره، في أغلب الأحيان، السياسة لا الثقافة، والخيبات بسبب الفشل والتردي السياسي التي تعيشه دول ما يُعرف بالمركز، وما يستتبعه من ترد اقتصادي وتعليمي، كما أنه يصدر عن شعور خادع بمركزية الذات، وأن ما تنتجه وتقدمه من أعمال جديرة بالفوز والصدارة بحكم انتمائها إلى المركز، لا بحكم ما فيها من أصالة وتفرد، ولا بما يمكن أن تقدمه من إضافة إلى حقل الإبداع الفني والأدبي. غني عن القول؛ إن الأصالة في الأعمال الإبداعية لا علاقة لها بما هو خارجها، إنما هي نتاج عملية معقدة، وتراكم خبرات وتجارب، فردية ومجتمعية، فلا حجم الدول ولا مكانتها السياسية والاقتصادية أو حضورها وفاعليتها الإعلامية، له علاقة بالعملية الإبداعية، ولو كان الأمر كذلك، لما أزاحت الرواية الأمريكية اللاتينية الرواية الأوروبية، الفرنسية تحديدا، أو الرواية الأمريكية الشمالية من مكانتها، ولما كان-على سبيل المثال- لشاعر مثل ديريك والكوت (1930-2017)، هذا الحضور والتأثير في شعر العالم، وهو الذي جاء من جزيرة صغيرة تُدعى «سانت لويسا» ضمن جزر الهند الغربية.

وما أُلمح إليه عن حصول رواية «تغريبة القافر» لزهران القاسمي، من قبيل أنها مُنحت لبلد لم يحصل روائيوه على الجائزة من قبل، وكأن الأمر يتعلق بالتسويات والتوازنات الجغرافية، لا بالأدب وقيمته الفنية، قيل العام الفائت عن رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» للروائي الليبي محمد النعّاس، حيث اتهمت لجنة التحكيم بالانحياز لكاتب شاب، يكتب عمله الأول، يأتي من بلد تتنازعه الفوضى والحرب، وكأن الجائزة شكل من أشكال المواساة والتعويض.

عندما مُنحت الروائية العمانية جوخة الحارثية جائزة «مان بوكر العالمية للأدب» عام 2019 عن الترجمة الإنجليزية لروايتها «سيدات القمر»، وحملت الترجمة عنوان «أجرام سماوية»، وهي أول شخصية عربية تحصد هذه الجائزة العالمية المرموقة، قرأنا واستمعنا لأصوات عربية رأت أن منح الجائزة لجوخة الحارثية جاء لدوافع بعضها سياسي (العلاقة التاريخية التي تربط عُمان بالمملكة المتحدة - لأن جائزة مان بوكر وقبل أن تُفتح للأدب المنقول إلى الإنجليزية، كانت مخصصة فقط للأدب المكتوب بالإنجليزية، بما فيه أدب كتاب دول الكومنولث البريطاني)، وبعضها أيديولوجي، لأن الكاتبة مسلمة محجبة، والغرب بمنحه امرأة محجبة الجائزة يدفع عنه تهمة معاداة الإسلام، ولم يُنظر إلى القيمة الفنية للرواية في لغتها الأصلية كما في اللغة المنقولة إليها.

المفارقة أن «سيدات القمر» في نسختها الإنجليزية استقبلت بحفاوة واهتمام نقديين كبيرين حول العالم، فيما لم تلق في العالم العربي سوى إشارات مقتضبة.

ولعلنا في غنى عن طرح تساؤل افتراضي؛ ماذا لو كان الفائزة بجائزة مان بوكر العالمية كاتب أو كاتبة من إحدى دول ما يوصف بالمركز العربي؟ والجواب الافتراضي - ونحن أيضا في غنى عن الاستطراد فيه - هو الاستحقاق، ولا أبعاد سياسية أو أيديولوجية. والسؤال الافتراضي ذاته على النسخة الأخيرة من الجائزة العالمية للرواية العربية، رغم أن الروايات التي تضمنتها القائمة القصيرة، بصرف النظر، عن الدول التي ينتمي إليها الكتاب والكاتبات، على قدر كبير من النضح والتميز. شخصيا أعرف تجربة ميرال الطحاوي، قرأت معظم رواياتها منذ «الخباء 1996» وحتى «أيام الشمس المشرقة 2022» التي كانت ضمن القائمة القصيرة، وهي رواية ممتعة جديرة بالجائزة أيضا.

تُنسب مقولة المركز والأطراف إلى الناقد وأستاذ الأدب في جامعة لندن السوري كمال أبو أديب، الذي ترجم وقدم كتاب الاستشراق لأدوارد سعيد إلى العربية عام 1981، ولهذا دلالته في هذا السياق، إذا يبدو أن أبو ديب أسقط مركزية الغرب ورؤيته الفوقية إلى الشرق على علاقة العرب بعضهم ببعض، في تكريس لمقولة أخرى، صحت في زمنها، ولكنها، ككل المقولات، لا تصح بالضرورة في كل الأزمان، وهي «القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ»، وهي صحة نسبية على أي حال، فهذه المراكز الثقافية البائدة كانت جميعها تكتب وتطبع وتقرأ، بالقدر الذي لم تعد هي كذلك اليوم، أو أنها تساوت فيما تكتب وتطبع وتقرأ مع بلدان عربية مثل السعودية، وعُمان، والمغرب، والجزائر، وغيرها. وقد اعترف كمال أبو أديب في حوار أجراه معه كاتب هذا المقال ونُشر في هذه الصحيفة في 13 مايو 1993، بأنه أول من طرح مفهوم المركز والهامش العربيين، وأنه نقل أصل المفهوم من علاقة الغرب مع الأطراف المُستعمرة؛ العالم الثالث ومنها العالم العربي، وقد أشار الناقد السوري إلى ذلك في مقدمته لترجمته لكتاب سعيد (الاستشراق)، لكن أبو أديب تحدث، في ذلك الحوار، عما وصفه بانزياح المركز لصالح الهامش، لأن المركز يتعرض للتشظي والتدمير في سياق ما وصفه بجهود الغرب لتدمير المراكز التاريخية للنهضة العربية. المفكر المصري سمير أمين كان أيضا بين أوائل من تحدثوا عن انزياح المركز لصالح الهامش، ولكن بفعل الثروة النفطية وما أحدثته من تحولات.

لا يمكن نكران ولا نسيان الدور التنويري العظيم لمصر، التي أول من عرف الدولة العربية الحديثة بجيشها ومؤسساتها ومدارسها ومعاهدها ومصانعها ومطابعها وصحافتها وبعثاتها التعليمية، منذ عهد مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا مطلع القرن التاسع عشر، وتأثير مثقفيها وكتابها وفنانيها على الثقافة والفن والأدب في العالم العربي، ولا نكران دور رواد النهضة العربية في مصر وبلاد الشام والعراق، لكن هذه الدول الرائدة تراجعت عن ريادتها لأسباب كثيرة معلومة، داخلية وخارجية، وأخلت مكانها لدول صاعدة، بينها دول في الخليج العربية.

وإذا كان التعليم هو مفتاح النهضة الثقافية في مصر والعراق وبلاد الشام، منذ مطلع القرن العشرين، فهو كذلك اليوم في دول الخليج. دولتان عربيتان تحتلان مراكز متقدمة على مستوى التعليم العام في العالم؛ هما قطر والإمارات، وعلى مستوى التعليم العالي؛ تحتل جامعات في السعودية وعُمان مكانة متقدمة على الجامعات المصرية، دون ضرورة للإشارة إلى وضع التعليم اليوم في العراق وسوريا ولبنان وما يشهده من تراجع.

بعيدا عن علاقة المركز والهامش عربيا، أو علاقة الشمال والجنوب عالميا، وهي علاقة صراع جدلية، الاقتصاد محركها الأول، يبقى الأدب والفن خارجها وفوقها، ويبقى الأدب من بين فنون الإبداع المختلفة (المسرح والسينما والموسيقى وحتى التشكيل) وحده عمل فردي، يتخلق وينمو ويتحقق في عزلة الفرد مع نفسه، في الهامش وبعيدا عن المركز، ولعل تجربة زهران القاسمي الأدبية أصدق دليل على ذلك، فهو كاتب «هامش» على الصعيد العماني، بقي على، خلاف كثير من أقرانه، بعيدا عن المركز، فلم تغوه «العاصمة» بصحافتها ومؤسساتها الثقافية، فيغادر قريته إليها، إنما بقي في هامشه يعمل ليقتحم المركز العربي بعمل يحمل من الأصالة والتفرد ما يجعله جديرا بواحدة من أبرز الجوائز الأدبية.

محمد اليحيائي- كاتب وروائي عماني