تحيّةٌ لعُمان.. وأهلًا وسهلًا بجلالة السلطان
د.ماجد الحمَد -
لم أكن أعلم حين ذهبت إلى سلطنة عمان تلبية لدعوة أحد الأصدقاء العمانيين في زيارة تستغرق بضعة أيام أنني سأنبهر بهذا البلد الطيب أهله بأخلاقهم ومروءتهم وحسن استقبالهم. لم يكن ذلك الانبهار نابعا من عدم اطلاع أو معرفة بعُمان وأهله، فلي من الأصدقاء العمانيين من عرفتهم أثناء دراستي في المملكة المتحدة ممن تركوا في نفسي أثرا بالغا بأخلاقهم وتعاملهم الراقي وحسهم العالي أدبا وذوقا وعِلما، وحفاوة وكرما؛ غير أن الذهاب إلى عُمان والتماس المباشر مع الإنسان العماني البسيط في كل مكان يجعلانك تزداد انبهارا وإعجابا بهذا البلد وأهله، إذ تصبح ذكرياتك في عُمان جزءًا أصيلًا منك ومن ذاتك.
هبطت الطائرة في مطار مسقط الدولي فكان في استقبال المسافرين ثلة من الموظفين العمانيين الذين أضفوا إلى روعة التنسيق والانضباط والتنظيم في الأداء جمالَ تعاملهم الرائع مع كل القادمين دون استثناء، إضافة إلى سرعة العمل والإنجاز. ثم خرجت إلى مسقط فكانت أمامي مدينة عصرية، مدنية تشع منها أنوار التاريخ وعبق الثقافة وعمق العلوم. فعُمان جزء لا يتجزأ من التاريخ العربي الإسلامي، تشع منها أنوار العراقة وأضواء السماحة والسكينة، والعلاقات الحميمة مع دول الجوار منذ البدايات الضاربة في عمق التاريخ، مرورًا بقبولها قناعةً وسِلمًا لدعوة النور المحمّدي المُبارك وما تلاه من حضورها الفاعل في كل لحظات التاريخ العربي المفصليّة، وحتى يومنا هذا.
ولقد كانت من المفاجآت التي أدهشتني رحلةُ بريّة امتدّت ما يربو على ألف كيلومتر تبدأ من مسقط وتنتهي في صلالة؛ إذ انطلقنا مع عدد من الأصدقاء العمانيين من مسقط ظهرًا وقطعنا نحو 500 كيلومتر تقريبا لتحط ركابنا في مدينة الدقم على ضفاف بحر العرب. والدقم مدينة لا تُخطئ العين أنها ستكون عاصمة اقتصادية في عُمان بما رأيناه فيها من إمكانيّات اقتصاديّة ضخمة مثل ميناء الدقم والحوض الجافّ والمشاريع الكبرى الأخرى. أقمنا ليلتنا في أحد فنادق الدقم التي تستقبل في منتصف الصيف نسائم عليلة يندر أن تجدها في شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت القائظ.
ثم انطلقنا في الصباح إلى صلالة، ولا تسأل عما رأيته من جمال الساحل والقرى المتناثرة على ضفاف طريقنا الذي يعبر مدنًا وبلدات مثل الشويمية وحاسك وسدح ومرباط وطاقة، والمناظر الطبيعية التي تبهرك بجمالها أينما يممت ببصرك: فهنا واحة غناء، وهنا جبال ممتدة، وهناك أضواء قرية صغيرة تطل علينا من مسافة بعيدة تزيد سحر السماء الصافية والبحر الهادئ ليسرح الخيال فيما شاء من صفاء وهناء.
ولا أنسى في طريقنا ذلك مرورنا ببعض القرى التي تسكنها جماعات مختلفة من البدو، وقد وُفِّرَت لهم الخدمات كاملةً كيّ يعيشوا في مضاربهم ومواطن أجدادهم عيشةً ترتبط بعراقة ماضيهم ولا تنفصل عن تطوّرات الحاضر وضروراته في آنٍ واحد. وقد تذكرت في طريقنا ذلك قول المتنبي الشهير:
مَن الجآذر في زيّ الأعاريبِ
حمرَ الحلى والمطايا والجلابيبِ
فكأن المتنبي يصف أسراب القرى والبلدات التي مررنا بها في رحلتنا تلك.
وصلنا إلى صلالة، وما أدراكَ ما صلالة؟ فلا تسل عن الجمال الباذخ في كل مكان: في الجبال وفي السهول، في أنماط البيوت التاريخية والأثرية التي تجعلك وكأنك تعيش الماضي بكل تفاصيله، وفي أنماط البيوت الحديثة التي تنقلك إلى القرن الواحد والعشرين بكل المواصفات والمقاييس الحديثة التي تخطر في بالك، إضافة إلى مشاريع التنميّة الشاملة التي أوصلت للإنسان العُماني أينما كان كل ما تتطلبه الحياة المعاصرة من خدمات ولوازم وضرورات. ويلفت النظر في صلالة كثرة السياح من الخليج بصفة خاصة، ومن الأوروبيين، الذين جاءوا، إضافة إلى الاستمتاع بالطقس الجميل وجمال الطبيعة، ليطلعوا على ما يشبع شغفهم بالتاريخ والحاضر في آنٍ واحد. أما الإنسان العماني فهو واحد في كل عمان، في مسقط أو في الدقم أو صلالة: الإنسان السَمِح المسالم الشهم الكريم في أي مكان، وفي كل مكان.
عدنا إلى مسقط بعد أن قضينا عدة أيام في صلالة، ولم أغادرها إلا وقد زرت عددًا من معالمها البارزة، وعلى رأسها جامع السلطان قابوس الأكبر الذي أبهرني بناؤه وما وضع فيه من هندسة معمارية عالية المستوى تجعله واحدًا من أجمل المساجد في العالم بأسره وأكثرها إبداعًا في بنائه وتفاصيل نقوشه الإسلاميّة.
إن في الذكريات لراحة للقلب وفسحة للروح وتنشيطا للعقل. ومما يجعلني أدون هذه الذكريات العلاقات التاريخية بين المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وسلطنة عُمان بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظهما الله - على جميع المستويات. ويعزز هذه العلاقات الزيارة التاريخية الكبيرة التي يقوم بها هذا اليوم جلالة السلطان هيثم لأخيه الملك سلمان، وهي زيارة بالغة الأهميّة على جميع المستويات، يُتوقّع أن يكون لها أثر إيجابيّ كبير على العلاقات بين البلدين الشقيقين في مختلف المجالات.
آخر القول: أوليس الإنسان إلا مجموعة مما مر به من ذكريات؟ من هذا المنظور فإن زيارتي لعُمان وما حَملتُه معي إلى المملكة العربية السعودية من ذكرياتٍ جميلةٍ، وما رأيته فيها من جمال الطبيعة وعراقة الإنسان وما شاهدته من تنمية شاملة، كلّ هذا له أثر لا حدّ لعمقه في تشكيل ذاتي، وستظل زيارتي العُمانيّة من أمتع الزيارات إلى روحي، وأقربها لنفسي.
فتحيّة لعمان ولجميع العُمانيين، وأهلًا وسهلًا بجلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله - في المملكة العربيّة السعوديّة: حللتم أهلًا ونزلتم سهلًا.
* أستاذ جامعي - جامعة الملك سعود بالرياض
