المتاحف والتنمية المستدامة

18 مارس 2023
18 مارس 2023

تُعد المتاحف أحد أهم المؤسسات الثقافية المعنية بحفظ التراث الثقافي للدول؛ حيث تعكس البُعد المعرفي والحضاري للمجتمعات، وتشكِّل مصدرا لهُويتها وتماسكها المجتمعي عبر حقبها التاريخية، الأمر الذي أسهم في صون ذلك التراث الحضاري، ورسَّخ هُويتها الوطنية، وجعلها قادرة على الحفاظ على تاريخها وحمايته من التدخلات المختلفة، غير أن المتاحف باعتبارها كيانات مرتبطة بثقافة الوطن ومدى وعي أفراده بحضارتهم وأهمية هذا الوعي في ترسيخ فكرة الحفاظ عليه، لا تمثل أمكنة لحفظ التراث وسرد تاريخه وحسب، بل أنها انعكاس لهذا الوعي وقدرته على التمثُّل في أشكال عدة من خلال الدور التنموي الذي تقوم به.

ولهذا فإن المتاحف بقدر ما تسْهِم في الحفاظ على التراث الحضاري للدولة، فإن لها دورا فاعلا في تعزيز الاستدامة والمساهمة في التنمية الثقافية والاقتصادية، باعتبارها أماكن للتعليم والإبداع والحوار، إضافة إلى دورها في تعزيز التنمية الاجتماعية وتحفيز التفاعل الإيجابي بين أفراد المجتمع، فإنها مؤسسات تتميز بالموثوقية، فهي تدعم المشاركة الثقافية، وتُسهم مباشرة في تعزيز الحفاظ على التراث الثقافي، وتحفيز الشراكة المجتمعية من خلال الحوار المشترك بين العناصر الثقافية المتنوعة، وبالتالي دعم التعاون بين الناس وإيجاد التاريخ المشترك والإحساس الوطني الجمعي من ناحية، وتمكين المبدعين والمساهمين للمبادرة من الخدمة المجتمعية من ناحية ثانية، إضافة إلى دورها في التنمية الاقتصادية والشراكات الإقليمية والدولية.

إن المحتوى الثقافي الذي تعرضه المتاحف لا يتعلَّق بحضارة الدول وثقافتها، بل أيضا يتعلَّق بالإنسان الذي صنع تلك الحضارة وأسَّس لتلك الثقافة، ولهذا فإنه كما يقول (فافيانا رودريغيز) في أحد مقالاته يعتبر (أقوى إدارة لدينا لإلهام التغيير الاجتماعي في هذه الأوقات)؛ ذلك لأنه يستعرض القيم والآراء والسلوك في أشكال مجسمة بارزة، قادرة على تجسيد المعنوي، وإظهاره في أشكال تكشف الأبعاد التنموية التي قدمها الأجداد في حقبهم المختلفة، وتجسيد القيم والمعارف التي أسهمت في ترسيخ حضارتهم وثقافتهم حتى وصلت إلينا، وبالتالي فإنه الأقدر على التأثير في الأجيال، والأكثر فاعلية في تعزيز الوعي بأهمية الثقافة ودور الهُوية الوطنية والقيم في دعم الاستدامة التنموية وبالتالي الحضارية للدولة.

ولأن المتاحف تحمل سمتي التنمية والاستدامة معا، فإن وعي القيادات الحكيمة لسلطنة عمان منذ عهد السلطان قابوس بن سعيد - رحمة الله عليه -، ثم قائد النهضة المتجددة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه -، قد أدَّى إلى العناية السامية بإنشاء المتاحف الوطنية والمتخصصة التي كان لها الأثر الفاعل في رفع الوعي الحضاري لدى أفراد المجتمع، ولعلنا تابعنا افتتاح متحف (عمان عبر الزمان) الذي تم برعاية كريمة من لدن قائد البلاد - حفظه الله ورعاه -، وقرأنا الكثير من المقالات والمتابعات التي تجمع بين التعبير عن المشاعر والأحاسيس المرتبطة بالمحتوى الثقافي الذي يعرضه المتحف، وقدرته على استحضار العاطفة الحضارية الكامنة بين أفراد المجتمع والوعي بأهمية العناصر الثقافية والمحتوى الذي يستعرض ما صنعه العمانيون عبر الأزمنة المختلفة الضاربة في القِدم، وما أسسوه من قيم وأخلاق على المستوى الحضاري، ظهر في شكل محتوى معرفي واعٍ، قادر على التأثير فينا حتى بعد آلاف السنين من غياب مبدعيه.

إن افتتاح المتحف كشف عن العديد من الأهداف التنموية التي يقوم عليها؛ فالتجارب التعليمية والاجتماعية، والتطورات التقنية التي تأسَّس عليها، إضافة إلى دوره في دعم الإبداع والابتكار؛ كلها أدوار كانت واضحة من خلال فقرات الحفل، الأمر الذي يكشف الوعي المؤسسي الذي بُني عليه المتحف، وقدرته المستقبلية على المساهمة في تحقيق الأهداف الوطنية التنموية، بالإضافة إلى ذلك فإن التأثير العاطفي الذي يتركه المحتوى الثقافي فيمن زاره، يؤسسه المحتوى الحضاري، كما يعكسه المعمار الهندسي للمتحف نفسه؛ فالهندسة المعمارية تصنع وهجا ثقافيا قادرا على أسر من يدخله، فيكون بين ردهاته وممراته وأركانه مأسورا بعظمته وبقدرة الإنسان على صنع الجمال والإبداع، فيزيد ذلك من قدرة المكان على التأثير النفسي في الزائر.

ترتبط المتاحف بمفاهيم ريادة الأعمال الثقافية؛ ذلك لأنها تمثِّل قدرة على الابتكار والتعاون والشراكة وإحداث التغيير الثقافي الذي يتواكب مع التطورات الحضارية والثقافية الناجمة عن الانفتاح والتقنية المتطورة بشكل متسارع؛ ولذلك سنجد أن متحف (عمان عبر الزمان) لا يشكِّل إضافة حضارية ومعرفية للثقافة في عُمان والمنطقة وحسب، بل إنه سيشكِّل نقلة نوعية في التحولات الثقافية على المستوى المعرفي والإبداعي، وسيكُّون نموذجا أساسيا للصناعات الإبداعية خاصة لفئة الشباب؛ ذلك لأنه سيُسهم في زيادة إدراج العناصر الثقافية وصونها وحمايتها، والدفع نحو إحداث تغييرات في الاستراتيجيات المرتبطة بالمؤسسات الثقافية وقدرتها على دعم الإبداع والابتكار في المجال الثقافي.

ولأن المتاحف مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتنمية المستدامة، فإنها تكشف عن دور الثقافة في تطوُّر مسيرة التنمية وقدرتها على دعمها ومساهمتها في تحقيق أهدافها، من خلال الكثير من الأدوار التي تقدمها للمجتمع؛ فالمتاحف لا تستعرض المحتوى الثقافي بقدر ما تُقدِّم تجارب إنسانية واعية عن الثقافة والحضارة التي أنتجها الإنسان نفسه، وبالتالي تقدِّم هذه التجارب باعتبارها نماذج للفكر الواعي القادر على بناء الحضارات، وتقديم كل ما من شأنه أن يؤسس لاستدامة ثقافة مجتمعه وترسيخ هُويته، وبالتالي فإن هذا هو مكمن الفخر الذي نشعر به عند زيارة المتاحف، وهذا هو سبب شعورنا بالإيجابية الذي يدفع إلى البناء الوطني والمساهمة المجتمعية الفاعلة.

لقد عُرف عن عُمان حرصها على ثقافتها وتراثها الحضاري، من خلال مجموعة من الممارسات التي رسخَّت هذا الوعي لدى أبنائها، بل وحتى في الخارج مما شكَّل واحدا من المبادئ التي تقوم عليها التنمية من ناحية، والانفتاح المحافظ من ناحية أخرى، ولهذا فإن هذا الحرص انعكس على العديد من التجارب من أبرزها المؤسسات المُتحفية، لذا فإن إنشاء متحف (عمان عبر الزمان) باعتباره تجربة تاريخية فريدة، يعتبر من التجارب التي ستجعل منه تجربة تنموية قادرة على تأصيل الوعي المعرفي عن التاريخ العماني لدى الزائر، وتقديم رؤية مستقبلية عن مسار تطورات هذا البلد العريق وآفاق طموحه، الذي ينبني من جذوره التاريخية الضاربة في القِدم.

إن متحف عمان عبر الزمان يشكِّل قوة معرفية وتقنية، سيكون لها الأثر الكبير في المشاركة المجتمعية، والتنمية التعليمية، والمساهمة في دعم الإبداع والابتكار في الصناعات الثقافية التي نطمح إليها، إضافة إلى إسهامه في القطاع السياحي ودعم توجهات السياحة المحلية بشكل خاص، وبالتالي مساهمته في التنمية الاقتصادية، فالمتحف لا يُشكل واجهة حضارية على المستوى الثقافي وحسب بل هو واجهة تنموية تقنية، تدل على تلك الإمكانات التي تتميَّز بها عُمان في المعمار والعرض والتطور التكنولوجي، الذي يدعم مسيرة التطورات المعرفية، ويقدِّمها باعتبارها تجارب إنسانية تاريخية ومعاصرة متناغمة مع التطور الهائل الذي يشهده العالم، فالمتحف يُعد تطورا في التنمية المُتحفية التي تشهدها عُمان، والتي سيكون لها الأثر البالغ في تحقيق العديد من الأهداف التنموية.

فلنفاخر بهذا الإنجاز الثقافي والحضاري وليكن نموذجا قادرا على استجلاب الوعي المجتمعي بالمواطنة والإيجابية الفاعلة.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة