الفنون الموسيقية وإيقاع التنمية

15 مايو 2021
15 مايو 2021

عائشة الدرمكية -

يُعد الاهتمام بالفنون أحد أهم المؤشرات الحضارية للدول؛ فالفنون لا تزدهر إلا في حالات الاستقرار الأمني والاقتصادي، وشعور المجتمع بالرفاه والإمتاع، لذلك سنجد أن المجتمعات التي تتمتع بتلك الصفات قادت الفنون بشتى أنواعها وفي كافة ظروفها المعيشية، حتى غدت سمة تتميز بها عن غيرها من الشعوب.

ولأن الفنون أثبتت في العديد من الدول قدرتها على المساهمة في التنمية المجتمعية المستدامة، عبر تحقيق العديد من الأهداف الإنمائية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، فإنها توصف اليوم بأهمية مساهمتها باعتبارها قطاعا ثقافيا نشطا، يتميز بعلاقاته المتشعبة، وصلاته الوثيقة بالإبداع والابتكار والتقنيات الحديثة، التي يمكنه من خلالها إحداث تأثيرات مباشرة على التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في الدول.

وتشكل الفنون الموسيقية واحدا من قطاعات الفنون الواعدة، التي تتميز بقدرتها الهائلة على الإبداع والابتكار؛ ذلك لأن المبدعين في مجالات الموسيقى وإنتاجاتها، يعملون ضمن معطيات التقنيات التي تتطور سريعا لتشكل إمكانات إبداعية هائلة. إنه قطاع يقوم على مساحات واسعة من نطاقات الحركة، سواء من حيث القاعدة المعرفية التي يمتلكها (أنواع الفنون وأدواتها ومساحات أدائها وطرائقها)، أو من حيث القوى المبدعة التي تؤديها (المؤلفون، والموزعون، والمغنون، والعازفون وغيرهم)، إضافة إلى الأدوات الصناعية المصاحبة التي تشكل أساسا في الصناعات الإبداعية.

ذكر تقرير (الاقتصاد الخلاَّق) الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، أن الصناعات الثقافية والإبداعية ومنها الفنون الموسيقية السمعية والبصرية والاستعراضية تحتل «مركزا حيويا ضمن الاقتصاد الإبداعي إذ تولِّد نطاقا واسعا من فرص العمل؛ ففي الأرجنتين يعمل نحو (300,000) شخص في فرص العمل الإبداعي، وهذا يمثل 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي». الأمر الذي يدعو إلى أهمية الالتفات إلى هذه القوة الاقتصادية الإبداعية التي تشكل قيمة مضافة على المستوى الثقافي والتنموي.

إن الفنون الموسيقية بأنواعها تشكل موردا اقتصاديا للأفراد من المبدعين أو ممن يعملون في الوظائف الإدارية المساندة؛ ولعل أهداف هذه الفنون الثقافية والاجتماعية جعلتها أكثر قدرة على الثبات في المجتمعات؛ فهي إن كانت قد حققت قيمة مضافة بالناتج المحلي في الأرجنتين وفي غيرها من الدول، وأسهمت في فتح فرص عمل للكوادر البشرية من خلال الوظائف الإبداعية التي تُعد اليوم من أهم مجالات الوظائف في مجتمعات المعرفة، فإنها رسخَّت القيم الحضارية للمجتمعات وأسهمت في تَشكُّل الهُويات الوطنية.

ولهذه الأهمية التي تحظى بها الفنون الموسيقية فقد اعتنت سلطنة عمان بها عناية فائقة؛ حيث أسست العديد من الفرق التخصصية منها الفرقة السلطانية الأولى للموسيقى والفنون الشعبية في عام 1976م، ومركز عمان للموسيقى التقليدية في عام 1984م، والأوركسترا السمفونية السلطانية العمانية في عام 1985م، ثم جمعية هواة العود في عام 2006، حتى إنشاء دار الأوبرا السلطانية في عام 2011. إضافة إلى فرق الفنون الشعبية والغنائية المنتشرة في ربوع السلطنة.

ولقد دعمت السلطنة هذه الفرق والمؤسسات من خلال السياسات الثقافية، والتدريب والرعاية وغير ذلك، ولنا أن نرى بوضوح الدور الذي تقوم به دار الأوبرا السلطانية في سبيل التنمية الثقافية والاستثمار في الفنون الموسيقية والأدائية والمردود الوطني من ذلك على المستوى الثقافي والسياحي والتعليمي وغير ذلك، إضافة إلى ما يقدمه مركز عمان للموسيقى التقليدية في صون التراث الموسيقى والفني، وتأسيس آفاق التطوير في هذه الفنون.

ولقد أوضحت إحصائية (الثقافة مشاركة وانتشار) الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، أن هناك ارتفاعا في «عدد المنشآت العاملة في النشاط الموسيقي من 23 مؤسسة في عام 2015، إلى 32 مؤسسة في عام 2019»، كما «ارتفعت أعداد المهرجانات السنوية من 10 مهرجانات في عام 2015، إلى 16 مهرجانا في عام 2019»، وأن «71% نسبة الارتفاع في دور العرض خلال عامي 2015-2019». الأمر الذي يعكس الاهتمام المتزايد في السلطنة بهذا القطاع الحيوي، إلا أن ذلك الارتفاع والنمو لم يتزامن مع ارتفاع في واردات هذا القطاع؛ فقد أوضح التقرير نفسه أن قيمة واردات الآلات الموسيقية وحدها انخفض «من 4,182,458 دولا أمريكي في عام 2015، إلى 1,859,883 دولا أمريكي في عام 2019»، بينما كانت قيمة الصادرات 4,161,248 دولا أمريكي. الأمر الذي يبين الفاقد الاقتصادي بين الواردات والصادرات للآلات الموسيقية، ناهيك عن أن التقرير لا يوضح واردات تلك المنشآت الموسيقية أو المهرجات خلال الأعوام المذكورة.

وعلى الرغم من الأدوار التي تقوم بها المؤسسات المعنية في رعاية الفنون الموسيقية في عُمان؛ وبرغم النجاح الذي حققته الأوركسترا السمفونية السلطانية العمانية، ودار الأوبرا السلطانية، إضافة إلى تلك الجهود التي يقوم بها الأفراد المبدعون في هذه المجال، إلاَّ أننا نتساءل على الدوام عن الفنان العماني، أين حضوره في الإقليم أو العالم؟ ولماذا لا نشهد حضور الفرق الموسيقية غير الرسمية في المحافل الدولية؟

والحال أن إجابة مثل هذه الأسئلة ليست من السهولة حتى يمكن إيرادها في مثل هذا المقال؛ ذلك لأن هناك العديد من الأسباب؛ فكلٌ يراها من جهة ومن زاويته سواء الفنانين أو شركات الإنتاج التي تطل باستحياء، في النهاية سنجد أن هناك مجموعة من التحديات تتركز في مجملها على الإنتاج أو الترويج والتسويق وهي تحديات ربما لم تقف أمام الرعيل الأول الذي أسس شركات إنتاج في ستينات القرن الماضي وكان يقصدها الفنانون من دول المنطقة كلها!

أورد الصندوق الدولي للتنوع الثقافي في تقرير له في عام 2012 (دراسة حالة) بعنوان (حس العدالة لدى موسيقيي بنين)، و(جمهورية بنين) هي دولة تقع في غرب إفريقيا، اعتنت باستوديوهات التسجيل والأندية الموسيقية التي تنامت وازدهرت بفضل تأثر الموسيقيين فيها بموسيقى فناني غانا والكونغو، وقد واجه الموسيقيون في بنين تحديات عدة من انتهاكات في حقوق الملكية الفكرية، وقلة التوزيع مما أضعف المردود الاقتصادي لتسجيلاتهم؛ فأنشأت الدولة شركة (المنتجات الإيقاعية العالمية) عام 2009 في كوتونو، بهدف دعم الإنتاج السمعي والبصري وتوزيعه وإدارته وترويجه وإعداد التصميم الخاص به على مواقع الإنترنت، إضافة إلى تنظيم الجولات للفنانين، وبدأت الشركة في الترويج للفنانين بعد إنتاج أعمالهم، فأنشأت شبكة مبيعات باستخدام الموزعين؛ وقد «مكَّن المشروع أصحاب المشاريع الثقافية في بنين من ترويج المواهب الجديدة وإنشاء نموذج للأعمال التجارية يتسم بالإبداع والابتكار والاستدامة»– بحسب التقرير – مما أدى إلى ازدهار صناعة الموسيقى وتحقيق المردود الاقتصادي في مراحل الإنتاج الفني كلها.

ومثل هذا النموذج نراه بوضوح في شركات إنتاج عدة في المنطقة استطاعت أن تؤسس البيئة الخصبة لازدهار الإنتاج الفني والعديد منها قامت عن طريق القطاع الخاص الذي يؤمن بالقيمة المضافة التي يحققها هذا القطاع، وما يمكن أن تقدمه الصناعات الموسيقية من مردود اقتصادي على مستوى الأداء والأدوات. فتأسيس شركة إنتاج قادرة على احتواء المبدعين وتأسيسهم وتطوير مهاراتهم من ناحية، وتسويق إنتاجهم خارج السلطنة يُعد من الأولويات التي يمكن أن يقودها مجموعة من المبدعين والمستثمرين بالسلطنة في شراكة مجتمعية تؤسس لبناء تنموي مستدام.

إن ازدهار الفنون الموسيقية في عُمان منذ القدم، ورعاية الدولة في العصر الحديث لها، ومع تزايد هذا الاهتمام ونحن ننشد تحقيق أهداف رؤية عمان 2040، علينا العمل قدما في تأسيس مجموعة من الشراكات المجتمعية بين القطاعات المختلفة من أجل دعم الفنان العماني والموسيقى في عمان، وأن نعمل على الترويج والتسويق خارج حدود البلاد.