الفكر السامي في تحديث الجهاز الإداري للدولة

18 مارس 2023
18 مارس 2023

في ظل التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم على مختلف المستويات لاسيما على المستوى التقني، تواجه المؤسسات الحكومية تحديا كبيرا في مدى قدرتها على الاستجابة الإدارية الفعالة لمواكبة تلك التطورات. واعترافا بالدور المحوري الذي تضطلع به الكفاءة الإدارية للمؤسسات الحكومية كبعد مركزي من أبعاد التنمية وأحد عوامل النجاح وتحقيق الأهداف المرسومة؛ لم تعد مسألة توفير وتهيئة البيئة المؤسسية وإعداد الكوادر الإدارية في القطاع الحكومي والاهتمام بها ودعمها خيارا وإنما أصبح ضرورة لتطوير منظومة العمل الحكومي، وضمانا لتحقيق أهداف الخطط والاستراتيجيات الوطنية بكفاءة وفعالية حيث تتسابق اليوم الحكومات في استقطاب أحدث النظم والأساليب الإدارية والتقنية لرفع كفاءة أداء العمل المؤسسي، لذلك فالجهاز الحكومي بحاجة للتحول من المرحلة التقليدية المتمثلة في التنظيم والإشراف إلى مرحلة متقدمة تستجيب فيها المؤسسات العامة بفاعلية ومرونة حيال سيرورة التطورات المتواصلة وتتماشى مع السياسات والرؤى.

لقد جاء إنشاء الأكاديمية السلطانية للإدارة في خضم النهضة المتجددة التي تشهدها السلطنة بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله- وانطلاقا من إيمان جلالته التام بتطوير العمل الحكومي على مستوى سلطاته الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية، ومواكبة لأهداف رؤية «عمان 2040» ومتطلبات تحقيقها بإنشاء جهاز حكومي حَوْكَمته شاملة ورقابته فاعلة وقضاؤه ناجز وأداؤه كفؤ، وترجمة للمقاصد السامية لإعداد الكوادر العمانية وتدريبها لتضطلع بدورها في خدمة الاقتصاد الوطني وأساليب إدارته على الصعيدين العام والخاص، ليكون اقتصادا منتجا ومتسقا مع مسارات الاقتصاد العالمي الحديث الذي هو دائم التطور، وانسجاما مع مسعى الأكاديمية السلطانية للإدارة ورؤيتها الطموحة بأن تكون منارة رائدة عالميا تستقطب وتؤطر المنهجيات الحديثة وفق أسس التنافسية والابتكار تحقيقا لرؤية عمان المستقبلية.

لقد أدرك الفكر السامي مبكرا أهمية تطوير الجهاز الإداري للدولة، وأن جميع المؤسسات تمثل شبكة متصلة تؤثر بشكل مباشر على تنافسية السلطنة عالميا، ومن أجل الارتقاء في تقديم الخدمات ورفاه المواطنين والمقيمين، فكان ضمن أولويات الانطلاقة الحديثة تأسيس أكاديمية معنية بالتطوير الإداري الحكومي بل وشملت اختصاصاتها التطوير الإداري في القطاع الخاص أيضا. وتستمد الأكاديمية ثقلها النوعي من أنها تحت الرعاية الفخرية لجلالة السلطان نفسه، واستقلالها الإداري الذي يتيح لها الفاعلية المباشرة في تنفيذ وتفعيل خططها واستراتيجياتها وشمولية مسؤولياتها على المستوى الدولة.

إن الهدف الأساسي في إنشاء الأكاديمية السلطانية للإدارة يمكن تلخيصه في أن الأكاديمية يناط بها إحداث تغيير إيجابي في أداء العمل المؤسسي ونقلة نوعية في طريقة تفكير الحكومية بوصفها كيانا حيويا يفعل ويتفاعل، وهي المنظم والمراقب والمنفردة بإدارة الدولة، فجاء المرسوم السلطاني (رقم 2/2022) في شأن إنشاء الأكاديمية السلطانية ليسند للأكاديمية نحو 13 مهمة رئيسة، 5 منها موجهة بشكل مباشر إلى إعداد وتأهيل الكوادر الوطنية نستوضحها كما يلي: تأهيل وتطوير القيادات الإدارية وإعداد القيادات الواعدة في القطاعين العام والخاص بما يتوافق واحتياجات المستقبل، والعمل على رفد القيادات التنفيذية الحكومية بالمهارات الحديثة المتعلقة بتطوير العمل الحكومي من خلال إثرائهم بالمحتوى الفكري المتخصص في الإدارة الحديثة، وصقل الكفاءات الإدارية التخصصية وأعضاء مجالس الإدارة في القطاعين العام والخاص ومدهم بالعلوم والمعارف والمهارات المتصلة بالفكر الإداري الحديث، وإقامة برامج متخصصة لتطوير أداء الموظفين في المحافظات لتنميتها وتعزيز تنافسيتها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وإعداد وتنفيذ برامج الزمالة بالتعاون مع بيوت الخبرة والمختصين في مجال التطوير الإداري، ووضع وتطوير الخطط الاستراتيجية اللازمة لإعداد وتأهيل الكوادر البشرية العمانية للعمل في الأكاديمية بمجالاتها المختلفة. وفي جانب التحسين الإداري فيناط بالأكاديمية، وتحسين الأداء العام بتوظيف تقنيات وأساليب التعلم الحديثة وتعزيز مهارات التعلم الذاتي المستمر المتصلة باختصاصات الأكاديمية، وتقديم المشورة والخدمات الفنية والاستشارية للقطاعين العام والخاص في الموضوعات ذات الصلة باختصاصات الأكاديمية والمساهمة في تنفيذها، وهي معنية أيضا بإيجاد شراكة مجتمعية بين الأكاديمية والمجتمع، من خلال تنظيم المؤتمرات والندوات واللقاءات العلمية المرتبطة بالتطوير الإداري، وتعزيز وتطوير التعاون في الاختصاصات المتعلقة بالأكاديمية مع غيرها من الجهات المعنية في الدول والمنظمات والمؤسسات الإقليمية والدولية المتخصصة، ويناط بها في سبيل تتبع أحدث الممارسات الإدارية العالمية إجراء الدراسات والبحوث في شأن التحديات الإدارية الآنية والمستقبلية، وإيجاد الحلول المبتكرة للتعامل معها ومعالجتها، كما إن المرسوم منح الأكاديمية الاستقلالية الإدارية بتمثيل سلطنة عمان في المؤتمرات والفعاليات والاجتماعات الإقليمية والدولية المتعلقة باختصاصاتها.

لقد حددت رؤية عمان 2040- ضمن أولوياتها الاثنتي عشرة- سمات الجهاز الإداري للدولة المنشود بأن يكون جهازا يتصف بالإنتاجية ويتسم بدرجة عالية من المرونة والفعالية، وهو مبني على أسس سليمة في التخطيط والتنظيم والمتابعة والتقويم والتطوير، تقوم فيه مؤسسات الدولة بتقديم خدماتها بتكامل وبأفضل الوسائل والطرق الحديثة وأن يكون مدعوما بموازنة مبنية على النتائج يرتكز فيه الإنفاق التنموي خصوصا على المشاريع الاستراتيجية، ولتحقيق أدائه الفعال يقوم على نظام مكافأة المنتج ومحاسبة المقصر ويتيح الفرص للمبدع. إن التوجه السامي بالتطوير الشامل للجهاز الحكومي تُوّجَ بإنشاء الأكاديمية السلطانية للإدارة في إطار إيجاد نموذج إداري حديث، يرسخ مفهوما جديدا في فلسفة العمل الحكومي، يرتكز على التطوير المستمر للكوادر البشرية، والتحول من الكلاسيكية الإدارية إلى الآليات الرقمية في إنجاز وتقديم الخدمات العامة، وإيجاد شراكة مجتمعية بين الجهاز الإداري والمجتمع بما فيه الجامعات ومؤسسات القطاع الخاص.

ماجد الخروصي باحث اقتصادي