الشخصية العُمَانية

21 ديسمبر 2021
21 ديسمبر 2021

د. سعيد توفيق

لكل شعب أصيل هوية تميزه. وقد عرفت هوية الشعب العُماني عن قرب منذ زمن بعيد، حينما رحلت إلى الخليج أول مرة معارًا من جامعة القاهرة إلى جامعة السلطان قابوس سنة 1990. كان ساحل الخليج يُسمَّى فيما مضى "ساحل عُمان والبحرين"، ولكن حدود عُمان الجغرافية قد تغيرت بمرور الزمان بحيث أصبحت تطل على ساحل محدود من الخليج. أدركت بعد طول تأمل أن عُمان هي كيان أكبر كثيرًا من هذه الحدود الجغرافية؛ فحدودها تمتد طويلًا على شاطئ المحيط الهندي، وتاريخها العريق يضرب بجذوره في جزيرة العرب وفي أفريقيا نفسها.

أول ما أثار تأملاتي حول عُمان قبل أن أتعرف على جغرافيتها هو الشعب العُماني نفسه. ما إن وطأت قدماي أرض المطار وجدت نفسي مأخوذًا بخصوصية هذا الشعب، بدءًا من الموظف العامل في المطار إلى الموظف الذي استقبلني في المطار، إلى كبار الموظفين والوزراء الذين عرفتهم بعد ذلك من خلال صلتي بعمان وأهلها التي امتدت عبر ثلاثين عامًا ولا تزال وطيدة إلى يومنا هذا. وأنا لا أسوق كلامي هنا على سبيل المجاملة أو النفاق الذي يكتبه البعض عن بلدان الخليج من باب التطلع إلى مغنم ما هنا أو هناك؛ فلقد سبق أن ذكرت بالتفصيل بعضًا مما أنوِّه إليه هنا في شهادة صدرت في إحدى الاحتفالات قريبة العهد بالعيد الوطني العماني في كتاب عن عُمان بعيون المصريين؛ والأهم من ذلك ما ذكرته في سيرتي الذاتية الأولى بعنوان "نشيج على خليج" (التي أقوم بتنقيحها الآن)، وفي سيرتي الذاتية الأخيرة بعنوان "الخاطرات" (التي كُتِبَت عنها دراسات ومقالات عديدة)؛ وليس هناك مثل السيرة الذاتية يمكن أن يعبر بقوة عن مكنون الذات ومشاعرها الحقيقية تجاه الأشياء والعالم والخبرات الإنسانية على وجه العموم.

ما أذهلني في الشخصية العُمانية هو الأدب البالغ الذي لم أعرف له نظيرًا من قبل. لن تجد مثالًا لهذا الأدب في أي بلد عربي آخر، بما في ذلك بلدي التي أنتمي إليها وأعرف عظم قدرها. إن قابلت أي عُماني في الطريق، فسوف يلقي عليك كثيرًا من التحيات. وحتى إن استوقفك شرطي في الطريق بسبب مخالفة مرورية ارتكبتها، فسوف يبادرك بالتحية وبالسلام عليك، ولن يتعامل معك بأي استعلاء باعتباره يمثل سلطة، على نحو ما نجد من أساليب تعامل الشرطيين مع غيرهم من المواطنين في العالم العربي. عرفت ذلك من الخبرة، رغم أنني لم أرتكب أية مخالفة طيلة إقامتي بعمان.

عايشت هذه التجربة في التعامل مع المواطنين العمانيين بشكل يومي. لكن ما أذهلني هو أن أجد المعاملة نفسها حينما أصادف مسؤولًا كبيرًا أو وزيرًا. صادفت ذلك منذ صبيحة اليوم الذي قدمت فيه إلى عمان: دلفت إلى إدارة الجامعة لكي أقدم أوراق قيامي بوظيفتي في كلية الآداب بمسمى "مدرس الميتافيزيقا وعلم الجمال". بينما كنت أقف في انتظار المصعد إلى الدور الثاني، رأيت شخصًا تبدو عليه مظاهر الهيبة والوقار يقف إلى جواري في انتظار المصعد. حينما أتى المصعد إلى حيث نقف في الدور الأرضي، دعاني هذا الشخص الوقور إلى الدخول أولًا وأصرَّ على ذلك. حينما انفتح باب المصعد في الطابق الثاني، وجدت من يستقبله من الموظفين بقوله: أهلًا معالي الوزير! عرفت آنذاك أن هذا الشخص الذي لا أعرفه هو معالي الدكتور يحيى بن محفوظ المنذري وزير التعليم العالي ورئيس جامعة السلطان قابوس آنذاك. وقع ذلك من نفسي موقعًا عظيمًا لا يزال تأثره في نفسي لا ينمحي أبدًا. حينما يدلف وزير ما إلى أي مكان في أي بلد عربي، ستجد من يُوسعون له الطريق ويبعدونك عن مساره، ولن يسمحوا لك غالبًا بمرافقته في المصعد. أعرف ذلك بالتأكيد؛ لأنني كنت أشغل منصب نائب وزير الثقافة بمصر، وكان الموظفون يفعلون معي الشيء نفسه، ولكني كنت أرفض ذلك المسلك، فما بالك بمن يشغل منصب الوزير نفسه في عوالمنا العربية. ظل هذا الأمر قابعًا في ذاكرتي إلى يومنا هذا، وتمنيت أن يدوم على أهل عمان هذا الخُلق الرفيع. عرفت هذا الخُلق الرفيع فيما بعد في وزراء ومسؤولين كبار عمانيين، مثلما عرفته في كثير من المثقفين والأدباء ورفاق الجامعة..

ولكن الشخصية العمانية لا تكمن فقط في حدود الأدب والأخلاق الرفيعة، بل هي شخصية متطلعة إلى الرقي والعلا. الشخص العماني البسيط لا يستنكف من العمل في محطة لتموين السيارات أو في السواقة أو في غير ذلك من الأعمال البسيطة. والطالبات والطلبة العمانيون متطلعون إلى المعرفة ومواكبة ثقافة وعلوم العصر، ويعكفون على ذلك بكل همة وإخلاص. ولعلهم مدفوعون في ذلك بما يعرفون عن حضارتهم العريقة التي يريدون استعادة حضورها وتألقها. وعلى الرغم من انفتاح الشخصية العُمانية على الآخر ورحابة أفقها؛ فإنها تتميز بشيء من التحفظ والتأني في إصدار الحكم على الأشياء. ويبدو أن السياسة العُمانية الحكيمة التي ترسخت منذ نهضة عُمان الحديثة قد ساهمت بقوة في تأصيل هذه الطبيعة المحمودة.

الشخصية العمانية تتبدى حتى في العمارة نفسها. لا تنشغل العمارة العمانية ببناء الأبراج العالية، وإنما تنشغل ببناء الأبنية الملائمة لاحتياجات وطبيعة المواطن العماني: الأبنية غير شاهقة، والبيوت تتألف من دور أو دورين أو ثلاثة في الغالب. حقًّا إن هذا المعمار قد تأثر بالمعمار الهندي، ولكنه ظل معبرًا عن طبيعة عُمان. وما أتمناه أن يظل المعمار العماني محتفظًا بشخصيته، وألا يمتد إليه التغريب بدعوى التطوير والتجديد، خاصةً في المناطق الساحلية البكر التي ينبغي أن يتناغم فيها العمران مع طبيعة المكان الذي صنعته الطبيعة الفريدة بنفسها.

*كاتب وباحث مصري وأستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بكلية الآداب جامعة القاهرة