الأقواس الذهبية تذهب إلى الحرب

23 يوليو 2022
23 يوليو 2022

في أعقاب نهاية الحرب الباردة، ومع تزايد سرعة العولمة، لاحظ توماس فريدمان أنه لم يسبق لأي بلدين حائزين على امتياز مطاعم ماكدونالدز أن خاضا حربا ضد بعضهما بعضا. قاده ذلك الاستنتاج إلى ما أسماه نظرية الأقواس الذهبية (رمز ماكدونالدز) لمنع الصراع: عندما يبلغ أي بلد مستوى بعينه من التنمية الاقتصادية ــ حيث تكون الطبقة المتوسطة كبيرة بالقدر الكافي لدعم مطاعم ماكدونالدز ــ يفقد شعبه الاهتمام بخوض الحروب. وعلى هذا فإن المفتاح إلى السلام، وفقا لمنطق هذه النظرية، ربما يكمن في التنمية الاقتصادية والترابط المتبادل.

لم يمض وقت طويل قبل أن تدحض روسيا نظرية فريدمان، أولا بغزو جورجيا في عام 2008، ومرة أخرى بغزو أوكرانيا في عام 2014. والآن شنت روسيا حملة عسكرية شاملة بهدف احتلال أوكرانيا وإعادة أراضيها وشعبها إلى «روسيا الأم». يبدو من الواضح أن الروابط والعلاقات الاقتصادية وحدها لا تكفي لصيانة السلام. ينظر كثيرون إلى الارتباط الاقتصادي الآن على أنه عائق. الواقع أن بعض البلدان، مثل ألمانيا وإيطاليا، أصبحت بسبب اعتمادها الشديد على الطاقة الروسية رهينة لنزعة الكرملين العسكرية. والآن أصبح قطع العلاقات التجارية مع روسيا حديث الساعة. حتى أن روسيا لم تعد «بلد ماكدونالدز»: أعلنت الشركة في مارس أنها قررت إغلاق جميع امتيازاتها في روسيا وعددها 850 فرعا. لم يكن فريدمان أول من يقترح أن العلاقات الاقتصادية والتجارية تخلف تأثيرا مهدئا على العلاقات الدولية. فقد زعم مونتسكيو أن «التأثير الطبيعي المترتب على التجارة يتلخص في دفعنا إلى السلام». وذهب توماس باين إلى أبعد من ذلك: «إذا سُـمِـح للتجارة بالعمل على المستوى العالمي الذي يمكنها تغطيته حقا، فإنها كفيلة باستئصال نظام الحرب». وفي القرن التاسع عشر، نَـظَّـم السياسي والصناعي البريطاني ريتشارد كوبدن حملة للدعوة إلى التجارة الحرة على أساس أنها «ستميل إلى توحيد الجنس البشري على أواصر السلام». الواقع أن مثل هذه الحجج لا تستند فقط إلى فكرة مفادها أن بلدان العالم لديها مصلحة اقتصادية في الحفاظ على الروابط التجارية التي أقامتها. فقد اعتبرت نظرية التنوير في دعم «التجارة الدمثة» أن التجارة تخلف تأثيرا حضاريا على المجتمع، لأنها تعتمد على التفاعلات الاجتماعية بين أشخاص متنوعين، وكذا مبادئ الإنصاف والمعاملة بالمثل. تصدى لنظرية التجارة الدمثة عدد كبير من المنتقدين، فمن الواضح أن لا شيء في تجارة الرقيق يجعل وصف التجارة الدمثة ينطبق عليها، وكذا قيام القوى الإمبريالية بتجريد المستعمرات من المواد الخام لأغراض التصنيع الوطني. ولكن لا يجوز لنا أن نتجاهل حقيقة مفادها أن الحرب أصبحت الآن احتمالا غير وارد بشكل أساسي بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك دول وسط وشرق أوروبا الثماني التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي بعد نهاية الحرب الباردة.

تُـرى لماذا لا تتناسب روسيا مع هذا النمط؟ ربما تكمن الإجابة في استبعادها سياسيا. بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، عُـرِضَ على البلدان الأعضاء السابقة في حلف وارسو ليس فقط بعض الحزم التجارية، بل وأيضا مجموعة من الفرص للاتصال بشبكات الهيئات التنظيمية الأوروبية والقضاء والهيئات التشريعية ومنظمات المجتمع المدني، حتى قبل أن تصبح مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي. أما البلدان التي لم تكن مؤهلة لعضوية الاتحاد الأوروبي فقد انضمت إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مما أدى إلى بعض التكامل العسكري وحس الانتماء إلى عضوية النادي الغربي. ولكن لم يُـعـرَض أي من هذا على روسيا. في عام 2000، اقترح فلاديمير بوتين على بِـل كلينتون أن روسيا ينبغي لها أن تنضم إلى عضوية الناتو، لكن هذه الخطوة لم تتخذ قط. لو حدث ذلك فإنه كان ليغير جذريا دوافع روسيا الجيوسياسية، وإن كان أيضا ليغير طبيعة الناتو بدرجة كبيرة. على أية حال، أبحرت تلك السفينة وضاعت الفرصة. والآن تسببت الحرب التي شنها بوتين على أوكرانيا في إحياء الناتو كتحالف مناهض لروسيا، وبات من المرجح الآن أن تنضم فنلندا والسويد إلى عضويته. علاوة على ذلك، منح الاتحاد الأوروبي كلا من أوكرانيا ومولدوفا وضع الدولة المرشحة، وأرست رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين الأساس لخطة أشبه بخطة مارشال من أجل أوكرانيا بهدف تمكينها من إحراز تقدم سريع بعد توقف القتال.

بعبارة بسيطة، عملت حرب بوتين على توحيد الغرب. والآن تتلخص المهمة في الحفاظ على هذه الوحدة لفترة كافية لضمان تكبيد بوتين أكبر قدر من الخسائر نظير حربه على النحو الذي يردعه بشكل دائم عن بذل المزيد من الجهود لتوسيع حدود روسيا بالقوة. ولكن يلوح في الأفق تحد أكبر. فلن يتسنى للغرب أبدا إقامة علاقات سلمية حقيقية مع روسيا في غياب درجة كبيرة من التكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. لذا، يجب أن يفكر الخبراء الاستراتيجيون الغربيون ليس فقط في كيفية إلحاق الهزيمة بروسيا وردعها (وإعادة بناء أوكرانيا)، بل وأيضا كيفية إلغاء العقوبات المفروضة على روسيا تدريجيا في نهاية المطاف. كان الجمع بين الارتباط السياسي والاقتصادي، في النهاية، أمرا بالغ الأهمية لنجاح خطة مارشال في أوروبا الغربية وإعادة دمج اليابان في الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. ينطبق منطق مماثل على الصين. وجه العديد من المعلقين انتقادات شديدة إلى دونالد ترمب بسبب قراره بسحب الولايات المتحدة من الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي كتلة تجارية تضم 12 دولة مطلة على المحيط الهادئ وتستبعد الصين.

من منظور المنتقدين، كانت الشراكة عبر المحيط الهادئ ضرورية لتعزيز نفوذ أمريكا في منطقة حرجة، مع تقليص نفوذ الصين. ولكن في حين كانت سياسة ترامب بعيدة كل البعد عن كونها حكيمة، فإن عزل الصين فكرة سيئة في حد ذاتها. ذلك أن استبعاد الصين يعني المجازفة بتمكين المتشددين في القيادة الصينية وزيادة الحافز الذي يدفع الصين إلى التصرف بشكل عدائي، أو حتى اللجوء إلى العنف. بدلا من ذلك، ينبغي للولايات المتحدة أن تنضم إلى الاتفاقية الشاملة التقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ (التي جاءت خلفا للشراكة عبر المحيط الهادئ) وأن تدعم انضمام الصين إليها. يعتمد تأثير التجارة الدمثة على الشمول الاقتصادي والسياسي. وهي مهمة بالغة الصعوبة في عالَـم اليوم، ومن المؤكد أن إنجازها لن يتسنى بين عشية وضحاها. ولكن بينما نسعى إلى تلبية حتمية إنهاء العدوان الروسي في الأمد القريب، يتعين علينا أن نعمل أيضا على ابتكار استراتيجية بعيدة الأمد لبناء عالَـم أكثر سلاما وازدهارا.

آن ماري سلوتر المديرة السابقة لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية، والمديرة التنفيذية لمركز أبحاث New America، وأستاذة Emerita للسياسة والشؤون الدولية في جامعة برينستون.

إيان شابيرو أستاذ العلوم السياسية بجامعة ييل ومؤلف كتاب الاحتواء: إعادة بناء استراتيجية ضد الإرهاب العالمي.

خدمة بروجيكت سنديكيت