أمراض الدم الوراثية.. وتحرير الجينات!
عندما كان ذلك الابن أو تلكم الابنة طفلة، تصرخ بشكل لا يطاق أثناء الاستحمام، مما أدى إلى نقلها إلى قسم الطوارئ بأحد مستشفيات سلطنة عمان. لعلنا سمعنا بهكذا مواقف، حيث كان التشخيص هو مرض فقر الدم المنجلي، وهو حالة دم وراثية تسبب نوبات من الألم المبرح، قد أقول أسوأ من كسر في الساق، وأسوأ من الولادة -إن جاز لي التعبير- خصوصا وأن المصاب -حفظكم الله- يعيش معظم حياته في خوف من احتمال حدوث تلك النوبات في أي لحظة، مما يجبره على ترك كل شيء للهروب مرة أخرى إلى المستشفى.
ومما لا شك فيه فإن المجتمع يدرك كيف أن أمراض الدم الوراثية منتشرة بعمان، خاصة وأن نسبة حاملي المرض فيها تبلغ 6% من الأطفال دون سن الخامسة، ومع ذلك فالعلاجات المتوفرة للمرضى بالأنيميا المنجلية هي علاجات تخفيفية ووقائية تقلل من حدوث النوبات، إلا أن العلاج الوحيد لهذا المرض حاليا هو زراعة النخاع، ولذلك كرست الإمكانات من خلال المؤسسات الصحية المعنية للمضي قدما بهذا العلاج، خصوصا أن عملية الزراعة تلك أضحت أكثر نجاحا وسلامة للمرضى، ومع ذلك وفي هذا المقام، يجب أن نذكر فرص وأهمية السعي أيضا لتطوير العلاج بالجين الذي يعد أحد مفاتيح العلاج لهذه الحالات، لا سيما وأن نسبة أمراض الدم الوراثية لدينا بنسبة عالية مقارنة بالسكان، ونحن نلاحظ عالميا كيف أن شركات الأدوية والمراكز الأكاديمية تتقدم وبشكل حثيث مهتمة بهذا المجال للنضوج به في العقد الحالي.
بطبيعة الحال، تلك الأبحاث والعلاجات الجينية في تقدم ملحوظ، منها استخدام علاج تقنية تحرير الجينات يطلق عليه كريسبر (CRISPR). وقد حظيت حقيقة تقنية كريسبر في تلك المرحلة بتغطية إعلامية كبيرة، ولكنها استُخدمت إلى حد كبير فقط لإصلاح الخلايا في المختبر. ولكن عندما حصلت إحدى مريضات فقر الدم المنجلي على حقنها التجريبية، لم يعرف العلماء ما إذا كان سيعالج مرضها أم أنه سيفسد داخلها بشكل ما. وبالفعل قد نجح العلاج، بشكل أفضل مما يتصوره أي شخص -وبعد فضل الله- وبفضل خلاياها المعدلة وراثيا، تعيش تلك المريضة الآن من دون أعراض الآلام لحد ما، خاصة بعد مرور سنة على العلاج.
وقد أقول هنا إنه لا أحد يعرف حتى الآن التأثيرات طويلة المدى للعلاج، لكن تلك المريضة ومرضى آخرون يتمتعون بصحة جيدة، ومن هنا جاء الضوء الأخضر من الجهات التنظيمية بالمملكة المتحدة، باستخدام هذا النوع من العلاج الجيني.
ولعلي أجزم هنا، بأن الاستثنائي لهذا التطور الطبي، هي تلك الموافقة ولتكون علامة بارزة في مجال تحرير الجينات بتقنية «كريسبر»، والذي كان مجرد فكرة في ورقة بحثية قبل ما يزيد على عقد من الزمن، مع التوقع بأن يعالج أمراضا مستعصية ويغير ربما العالم! لا سيما وأن مرض فقر الدم المنجلي هو المرض الأول - ومن غير المرجح أن يكون الأخير - الذي يتم تحويله بواسطة تقنية «كريسبر» تلك؟!
فعند الولادة، يبدأ الجين الذي يشفر الهيموجلوبين الجنيني في التوقف. لكن البالغين في بعض الأحيان ما زالوا يصنعون كميات متفاوتة من الهيموجلوبين الجنيني، وكلما زاد إنتاجهم، لاحظ العلماء أن مرض فقر الدم المنجلي أكثر اعتدالا، كما لو أن الهيموجلوبين الجنيني قد دخل ليحل محل النسخة الخاطئة لدى البالغين. وهنا اكتشف علماء الوراثة في النهاية السلسلة الدقيقة من المفاتيح التي تستخدمها خلايانا لتشغيل وإيقاف الهيموجلوبين الجنيني. لكنهم ظلوا عالقين هناك: لم يكن لديهم أي وسيلة لقلب المفتاح بأنفسهم! لذلك جاءت هذه التكنولوجيا، وكأنه زوج من المقص الجيني الذي يقوم بإجراء قطع دقيق إلى حد ما على الحمض النووي.
وهنا بلا شك فإن عملية تقنية «كريسبر» عملية طويلة ومرهقة، تشبه عملية زرع نخاع العظم بالخلايا المعدلة الخاصة بالشخص لا سيما وكلنا يعي بأن عملية زرع نخاع العظم من متبرع هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للأطباء من خلالها علاج مرض فقر الدم المنجلي، ولكنها تأتي مصحوبة بالتحدي المتمثل في العثور على متبرع متطابق، وأحيانا مخاطر حدوث مضاعفات مناعية. وبالتالي سندرك أن استخدام تقنية كريسبر لتحرير خلايا المريض نفسه يزيل العائقين!
وهنا وبالنظر لهذه التقنية ومتابعة الدراسات المرتبطة، لا أعتقد بأن الأطباء حتى الآن على استعداد لتسميته علاجا صريحا! خاصة أن سلامة تحرير الجينات على المدى الطويل غير معروفة، صحيح أن العلاج قضى فعليا على أزمات الألم، إلا أن تلف الأعضاء نتيجة المرض يمكن أن يتراكم حتى دون ألم حاد. وسؤالي هنا: هل يمنع تحرير الجينات تلف الأعضاء أيضا؟
بطبيعة الحال، هناك نسبة كبيرة جدا ممن قاموا بفحص ما قبل الزواج لأمراض الدم الوراثية بمجتمعنا، قد تزوجوا رغم نتائج الفحص، وللأسف المسوحات الصحية في سلطنة عمان تؤكد مدى انتشار أمراض الدم الوراثية بشكل كبير مقارنة بعدد السكان. لذلك أذكر المجتمع بأهمية الأخذ بالأسباب الصحية المناسبة لذلك، وأدعو المؤسسات الصحية المعنية، والمؤسسات المجتمعية بتكثيف التثقيف الصحي لأهمية الموضوع. ولعلي هنا أقترح أن تقوم الجهات المعنية في الحكومة بإنشاء لجنة دائمة معنية بأمراض الدم الوراثية، تتكون من متخصصين في أمراض الدم الوراثية، يؤازرهم متخصصو علم أمراض الجينات بجامعة السلطان قابوس، والمركز الوطني للصحة الوراثية، إضافة إلى النخب الأكاديمية الطبية المرتبطة بدراسة علم أمراض الدم الوراثية، وذلك لخلق هيئة متكاملة تنسق الجهود مع المؤسسات الأكاديمية العالمية، وتلكم الشركات المصنعة والباحثة في إنتاج العلاج الجيني، والإكمال والاستمرار من حيث انتهوا. كيف لا، والمفروض أن يخرج العلاج الجيني لهكذا مرض من السلطنة إلى العالم.
لعل ما ذكرته أعلاه هو أحد تلك العلاجات الحقيقية، مع تقدم طرق العلاج، خصوصا في ما يتعلق بالعلاج الجيني لأمراض الدم المنجلية. حيث يمكن للأطباء في يوم من الأيام تصحيح الطفرة الأساسية التي تسبب مرض الخلايا المنجلية بشكل مباشر. طبعا هنالك الآن تجارب سريرية جارية بالفعل لاختبار تقنية «كريسبر» في علاج السرطان، والسكري، وفيروس نقص المناعة البشرية، والتهابات المسالك البولية.
د. يوسف بن علي الملا طبيب وكاتب طبي
