مقال: صور ناصعة في حب الوطن
إن من يتابع التحرك الشعبي العفوي الذي بدا عليه الناس شيبانا وشبانا في النفور لمساعدة أهاليهم المتضررين من الحالة المدارية "شاهين"، يمكنه أن يسجل مواقف وصورا ناصعة في حب الوطن. ناصعة كذلك بالاتقاد والحس الجماعي بالمسؤولية. يأتي "الشايب" من الجبل الأخضر وقد ارتدى ملابس العمل ( فانيلة وبانطلون) واتجه مع قوافل المساعدة إلى أرض معركة أخرى، غير معركة الحياة اليومية. معركة لا نوم فيها ولا قرار. بعد ذلك سنجده رغم عمره المتقدم وهو معتكف على إصلاح عطب وترقيع عوج ورتق خرق، في العمق هو أراد أن يترك لنا صورة ومثالا معبرا مفاده أن العمر وتقدمه لا يقفان عائقا لمن أراد - من قلبه - أن يقدم خيرا للناس ويساعدهم في تجاوز محنتهم. تجاوز المحن نراه كذلك في الصور الكثيرة التي تأتي تباعا من أرض معركة الكفاح، وخاصة في مناطق الباطنة الأكثر تضررا. سنرى من الصور أن بيتا كانت محتوياته مبعثرة والطين يصبغ كل تفصيل فيها، سنراها في صورة تالية ناصعة في نظافتها وكأنما أعادت -بعناد- زمن الجائحة إلى ما قبل حدوثها. لا ننسى هنا كذلك جنود الوطن الأوفياء من شرطة وجيش وكوادر طبية، وما قاموا به من جهود كبيرة سجلوا فيها وطبعوا أجمل الصفحات والصور في ذاكرة الوطن والناس.
2
في روايته الجديدة "والله إن هذه الحكاية لحكايتي" لا يحيد الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو أو القارئ الخطير، عن ذلك الخط النوستلجي الذي وسم جل تراثه السردي. حيث يتمازج التأمل بالحكي في جو من المتعة والإيناس. ففي هذه الرواية يلتقي شخصان من زمنين متباعدين، حسن البصري وحسن ميرو، الأول صائغ يعيش في بيئة لا حضور فيها للأدب، ومع ذلك، فإنه اهتدى بكتاب للوصول إلى بلاد الجن، بينما حسن ميرو حل بباريس بفضل رواية توفيق الحكيم عصفور الشرق، وهناك التقى بنورا كما حدث للحكيم في روايته التي تشبهه.
سبق أن أشار الناقد سعيد يقطين في كتابه "قال الراوي": إن زمن الحكاية الشعبية لا يتقيد - من أجل إمتاع القارئ- بالحدود المنطقية، حيث يمكنك بسهولة أن تعقد لقاء بين قاروت وعنترة بن شداد. ألا يفعل كيليطو شيئا قريبا من ذلك، حين يدخل في سرده بعض الفرائد والمواقف العجيبة، وحين يمزج الأزمنة ليخرج لنا بسبيكة أدبية ممتعة تشبه حلواء ابن شهيد الأندلسي، نسبة إلى نص له يحمل هذا العنوان في كتابه التوابع والزوابع؟ بل يذهب أبعد من ذلك حين يتداخل الشخصي السيري بالمتخيل، ويأتينا الشك - أحيانا- بأن كيليطو لم يكن يتحدث إلا عن نفسه وأحلامه تحت اسم وقناع مستعار وهو شخصية حسن مير..ألم تكن الحكاية حكايته؟
يصنع كيليطو أحجية من روايته، وكان القصد الضمني منها هو محاورة التراث العربي عن طريق الحكي. عن طريق ما توفره الرواية من تقنية سردية ولعب في الأزمنة. فكتاب " مثالب الوزيرين" لأبي حيان التوحيدي يأتي في الرواية ككتاب نحس، كل من يكمله يموت. ألا تذكرنا هذه الرواية برواية "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو، الرواية التي بيع منها 52 مليون نسخة؟ وألا تذكرنا بالتالي بحكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، أعني حكاية الكتاب المسموم؟ الدائرة تدور، لا يذكر كيليطو ذلك، ولكنه بذكائه يعرف، والذي قرأ كثيرا- كما يوحي اسمه- يعرف كثيرا، ولكنه يعتمد كذلك على المسح والنسيان.
3
هل يمكن للرواية أن تذكر ما لم يذكره التاريخ؟ نعم أو بالأحرى أن تذكر التاريخ وتفاصيله ولكن في قالب سردي. يحصل ذلك كثيرا. ففي رواية الأفغاني خالد حسيني المقيم في أمريكا، الذي بيعت روايتان من رواياته هما "ألف شمس ساطعة" و"عداء الطائرة الورقية" 38 مليون نسخة حول العالم. لتتحول بذلك حياته من طبيب إلى مؤلف عالمي وفوق ذلك تتكدس عليه الأموال. رواياته تمتاز بتشابكها التاريخي مع الحاضر المعاش، كل ذلك يقدمه في طبق شائق. ولكنها جميعا عن أفغانستان تنطلق من فترة حكم الملك ظاهر شاه، الذي شهدت فترة حكمه استقرارا. ولكن الأمريكان والسوفييت كان لهما رأي آخر، في تكالب الأطماع على هذا البلد المليء بالثروات المعدنية.. ففي أيام الملك ظاهر شاه الذي تم الانقلاب عليه من طرف ابن عمه داود خان، حين كان الملك ذاهبا إلى إيطاليا للعلاج، كانت الحياة مستقرة وليبرالية والمرأة تعمل في أي مكان، كما كانت جامعة كابول مزدهرة والحياة تمشي بيسر، ولو قدر لأفغانستان أن تعبر حياتها بحرية ودون تدخلات منذ ذلك الزمن لأصبحت مثل دول مسلمة مزدهرة كتركيا وماليزيا على سبيل المثال وليس الحصر.
فظاهر شاه أنشأ دستورا مدنيا وهو ما تحن إليه المرحلة الحالية، بل إن مختلف الكتاب الأفغان في كتاباتهم يعتبرون فترة ظاهر شاه فترة حنين ونستالجيا. ولكن القوى الكبرى كان لها رأي آخر، بعد الانقلاب دخل السوفييت مباشرة ثم تبعهم الأمريكان بطريقة غير مباشرة، والمقطع التالي من رواية "ألف شمس ساطعة " يلخص الكثير: "بعد ثمان سنوات من الحرب، الآن بدأ الرئيس الأمريكي ريجان في إمداد المجاهدين بصواريخ "ستينجر" لإسقاط المروحيات السوفيتية، الآن وقد راح المسلمون (المتعصبون) في جميع أرجاء العالم يلتحقون بالقضية..الخ". هؤلاء أنفسهم الذين تحولوا فيما بعد إلى وقود لحروب أخرى في ما بينهم، وبيد الصديق أو المحرك نفسه الذي صار عدوا، ثم صار صديقا!
