العلم المرح - نيتشه1

24 مايو 2023
24 مايو 2023

كعادة نيتشه المتفرد، يحمل الكتاب عنوانا فريدا غير مألوف «العلم المرح»، ومع فيلسوف كنيتشه؛ ينبغي على المرء أن يقرأ كتبه وبيده مشرط جراحة، يحلل الكلمات والعبارات ويحاول الوصول لما تحت جلد النص، فنحن أمام عبقري اللغة المخاتلة وثعلب الفلسفة الأسطوري.

أما عن طريقة ومسلك هذا الكتاب فكما يقول المترجم علي مصباح عن نيتشه الذي يتوخى: «أسلوبا يجمع بين الشذرة، والخاطرة والتحليل، والشعر أيضا» وهي طريقة تميز بها فيلسوفنا واصطبغت بها جُلُّ أعماله تقريبا، فكتاباته وإن بدت وكأنها أشتات مؤتلفة ذات طرائق متنوعة لا التقاء بينها ؛ إلا أنه «يظل موجها بهاجس واحد هو تأطير الكل داخل رؤية ومنهج، وبناء وحدة شاملة» عن الموضوع الذي يهدف إليه كتابه.

هذا الكتاب المخيف، يجعلك تقشعر في كثير من مواضعه، تلك القشعريرة التي تصيبنا ونحن نصل إلى غرفة المراقبة كما في فيلم«Eagle Eye». حيث يبدو نيتشه وكأنه العرّاف صاحب النبوءات المفزعة، الذي نظر إلى المستقبل بلحظ الغيب وهو يكتب كثيرا من شذراته، خصوصا تلك التي تقصف الرأسمالية وتتحدث عن نتائجها في الوقت الذي لم تكن فيه -أي الرأسمالية- سوى رضيع في مهده لم يتيقن الأطباء قدرته على النجاة؛ لكن تبين أن ذلك الرضيع، لم يكن سوى المسخ «إيفار» ابن «راغنار»، كما في مسلسل الفايكينج أو الأسطورة الإسكندنافية.

يقول نيتشه في إحدى مواضع الكتاب «لسنا من أولئك الذين لا يتيسر لهم التفكير إلا بين الكتب وبقادح من الكتب؛ فعادتنا هي أن نفكر في الفضاء الرحب، ونحن نتمشى، ونقفز، ونتسلق، ونرقص، ومن الأفضل فوق جبال نائية أو بجوار البحر، هناك حيث تغدو الدروب نفسها في حالة تأمل وتفكر. وسؤالنا الأول حول قيمة كتاب، أو شخص ما، أو مقطوعة موسيقية هو: «أيستطيع المشي؟ بل وأكثر من ذلك، هل يستطيع الرقص؟».. نقرأ* نادرا، وبالمقابل نقرأ جيدا».

كتب مترجم الكتاب في هامش الصفحة التي اقتبستُ منها يقول «*وهذا طبعا غير صحيح فيما يتعلق بنيتشه، فقد كان قارئا نهما وفي مجالات شتى: فلسفة، بحوث علمية، نقد أدبي، شعر، رواية... حسب ما تفيد به إحالاته، وكذلك دفاتر خواطره وما يسجله من مقتطفات قراءاته المتنوعة، وتعليقاته».

ومن اعتاد على قراءة نيتشه، يجد كلام المترجم موزونا بالغ الدقة؛ فنحن أمام عقل غير عادي ألبتة، ففضلا عن قراءاته الفلسفية الشاملة؛ نجده يقرأ شعر حافظ الشيرازي ويعرج على كتابات الرحالة الذين زاروا الصحراء العربية، بل ويتحدث عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كما في كتابه «نقيض المسيح»، بل إن أبرز ما ألفه «هكذا تكلم زرادشت» لم تكن البطولة فيه لشخصية أوروبية، بل لشخصية آسيوية محضة. ثم إن القارئ لهذا الكتاب ليدهش أمام تفكيكيته العبقرية، فلم يكن ربط موسيقى فاغنر بتشاؤمية -رومانسية شوبنهاور كما يسميها نيتشه- هي ما يثير الدهشة، بل تجاوز ذلك إلى مجال مختلف تماما وهو مجال العلوم الطبيعية -كما في حديثه عن داروين/الداروينية- وربطها بفلسفة هيغل. وهي كلها دلائل على موسوعية هذا العارف بالفلسفة، الموسوعي المعرفة، كما أنها أمثلة متفرقة تضيء لنا وجها من وجوه الجوهرة المشعة للعقل النيتشوي.

يتألف الكتاب من مقدمة للمؤلف سبقتها ملاحظة حول عنوان الكتاب بقلم المترجم، ثم «استهلال بقافية ألمانية» وهي مقاطع شعرية قصيرة بلغت 63 مقطعا، وشذرات تراوحت بين القصيرة والمتوسطة إلى الطويلة جدا، عِدَّتُها 383 شذرة مقسمة على خمسة كتب -فصول-. وملحق حمل عنوان «أناشيد الأمير الخارج على القانون» يجمع أربعة عشر قصيدة، تتلوه الهوامش -من صنع المؤلف- التي جاءت منفصلة وفي ختام الكتاب؛ وهي مقارنات بين مسودات عدة كتبها نيتشه وغيّر في بعضها حذفا وإضافة، كما أن تلك الهوامش تحتوي قدرا لا يستهان به من الإشارات والكنوز الخفية لقرّاء نيتشه.

يفتتح نيتشه الكتاب -الفصل- الأول بالحديث عن «القائلين بمقولة غاية الوجود» وباستنتاجه بأن الناس «يسعون دوما وراء غاية واحدة في كل أمر: أن يفعلوا ما يكون صالحا لحفظ النوع البشري» ثم يفند هذه الفكرة ويسهب في شرحها حتى يصل إلى الحديث عن «الضمير العقلي». حيث يدعو إلى التفكر والتفكير والنظر بعين غيرِ التي اعتادوا النظر بها في تعاطيهم مع ما يعتبرونه مسلمات. ثم تتوالى الشذرات من «النبيل والعامي» إلى «الرغبة في المعاناة» وهي الشذرة الأخيرة في الكتاب -الفصل- الأول. وما بين هذه الشذرات، نجده يتحدث -بإشارات خفية أحيانا- عن كانط والأفكار العالية والوعي والحس الراقي معرجا على «الغاية من العلم» والقوة والحب وهو في مجمله توجيه إلى ما ينبغي على المرء -المثقف خصوصا- أن يكونه وفيه نصائح حقيقية لطلاب المعرفة ولمريدي القوة المتطلعين إلى الحياة حسب وصفه.

يتم تأطير نيتشه كأحد الفلاسفة التشاؤميين الداعين إلى الإلحاد، لكن من يقرأ كتبه يجده ملحدا بالكنيسة والممارسات الكنسية في حقيقته وليس بالله الخالق، وهو ما تحدث عنه بالتفصيل المؤلف البريطاني كولن ولسون في كتابه «اللامنتمي». كما أن المقارنة المغلوطة بين نيتشه -فلسفيا- والفيلسوف الروماني إيميل سيوران هي مقارنة مجحفة بحق نيتشه الداعي إلى الحياة، مقابل سيوران العدمي المفرط في عدميته. كما أن نيتشه يُستفاد منه كفيلسوف لغوي صِرف تقترب و تتلامس لغته مع الشعر في غالب الأحيان.