مقال جرة قلم .. الجاحظ بين مقامات الجدّ والعلم والهزل
محمود الرحبي -
إذا كان أبو عثمان الجاحظ قد انتهج نهجا ساخرا في قصصه، كما في «البخلاء»، فقد كان جادا حد التنظير في كتابه «البيان والتبين» وكان، في كتابه «الحيوان»، علميا توثيقيا، يستقرئ ويُعمل عقله ويسائل تجربته وشكه وسماعه وعيانه في البحث عن الحقيقة العلمية. في هذا الكتاب عاد الجاحظ حتى إلى مرجعيات أرسطية في الحديث عن بعض الحيوانات التي ذكرها أرسطو، مثل بعض الأفاعي، التي كانت سائدة في اليونان. ومن هذه الزواحف تلك الحيةُ ذات الرأسين، أحدهما في طرفها الأمامي والآخر في مكان الذيل.
في خضمّ أحاديثه العرضية في هذا الكتاب الذي خصصه للحيوانات، هناك حديث مثلا عن الترجمة؛ فقد كان الجاحظ، حتى في مثل هذه الأحاديث العرضية، يتحلى بالصرامة العلمية. كأن يقول عن الترجمة «لا يجوز الشعر في الترجمة».. وقد فسر الأمر بناء على أن الشعر وزن وقافية يصعب نقلهما إلى لغة أخرى بهيئتيهما. والوزن والقافية في الشعر غيرهما في السجع المنثور، فهما يستجيبان بالأساس إلى انفعالات الشاعر، وهي انفعالات يصعب كذلك نقلها إلى لغة أخرى، لأن التعبير بلغتها الأصلية هو الأصدق.
إن ما جعل حديث الجاحظ عن الترجمة لا يرِد في «البيان والتبيين» أن مجالَه المعاني والبلاغةُ وطرُق نطق بعض الكلمات، بينما المكان الأنسب هو محل العلم والحقائق، ليكون الحديث عن الترجمة هامشيا في محل من العلم أجدى من الحديث عنه في محل الأدب أو في محل البيان.
كان ذلك التقاطا ذكيا من كاتب بقيمة الجاحظ، الذي لم ينل مكانته الخاصة في الأدب العربي، بل والعالمي، إلا بعد كثير من المجاهدة والحضّ على التفكير والتجديد؛ وقبل كل ذلك على القراءة، فهو لم يكن يستعير -حين يستعير- كتابا واحدا، وإنما دكّانا كاملا من الكتب، يغلقه عليه ويظل داخله أياما.. حتى قاله عنه مستشرق روسي إنه يشكل ثقافة أمة كاملة، وكان المستشرق الشهير جاك بيرك يطلق عليه صفة «الكاتب العظيم».
كان الجاحظ من أوائل الكتاب الذين اهتمّوا بالكيف قبل الكم وأعطوا، بذلك، الطريقة في صياغة المواضيع أهمية أكبر من المواضيع نفسها. فمن يقرأ عبارته الشهيرة «المعاني ملقاة في الطرقات»، وهي عبارة تلوكها الألسن، في حقيقتها لا تهتمّ بالمعاني بل تعدّها شأناً تافها ومجانيا وسهلا الحصولُ عليه، مثل أي شيء ملقى في الشارع. ما يهمّ هو السبك والصنعة، أي طريقة تقديم هذه المعاني، وهذا ما يقوم به الأديب المتميز، فهو يبحث عن طرق جديدة في صياغة معان قد تكون في كثير من الأحيان مألوفة ومتداوَلة وعادية، ولكن الأديب المحترف يقدّمها في ثوب جديد ومختلف يكون أكثرَ قابلية على البقاء.. هذا ما فعله الجاحظ في كتابه «البخلاء»، عبر إدخال عنصر السخرية في الأدب، ما ضمن لقصصه التميز والخلود.
إن دافعنا إلى الاستشهاد بالجاحظ في الحديث عن السخرية في الأدب هو أن الجاحظ أول من ألف كتابا كاملا في هذا الشأن، في كتابه «البخلاء». فبفضل الجاحظ تمثّلت السخرية في قالب حكائي قصصي، بعدما كانت قبله في قالب إخباري. كان الجاحظ أول من أعطى جانب السخرية مهمة أسلوبية في الحكاية. وكان تأثيره كبيرا في من جاؤوا بعده، مثل ابن قتيبة وأبي حيان التوحيدي وغيرهما. وامتدّ تأثير أسلوبه الساخر إلى كتابات معاصرين.
فتَعدّد مستثمرو السخرية في الأدب العربي، والأستاذ واحد: الجاحظ.
